المسألة الثالثة : في ﴿جَنَّـاتِ النَّعِيمِ﴾، يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر، ويحتمل أن يكون خبراً واحداً، أما الأول فتقديره : أولئك المقربون كائنون في جنات، كقوله :﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾، وأما الثاني فتقديرهم المقربون في الجنات من الله كما يقال : هو المختار عند الملك في هذه البلدة، وعلى الوجه الأول فائدته بيان تنعيم جسمهم، وكرامة نفسهم فهم مقربون عند الله فهم في غاية اللذة وفي جنات، فجسمهم في غاية النعيم، بخلاف المقربين عند الملوك، فإنهم يلتذون بالقرب لكن لا يكون لجسمهم راحة، بل يكونون في تعب من الوقوف وقضاء الأشغال، ولهذا قال :﴿فِي جَنَّـاتِ النَّعِيمِ﴾ ولم يقتصر على جنات، وعلى الوجه الثاني فائدته التمييز عن الملائكة، فإن المقربين في يومنا هذا في السموات هم الملائكة والسابقون المقربون في الجنة فيكون المقربون في غيرها هم الملائكة وفيه لطيفة : وهي أن قرب الملائكة قرب الخواص عند الملك الذين هم للأشغال، فهم ليسوا في نعيم، وإن كانوا في لذة عظيمة ولا يزالون مشفقين قائمين بباب الله يرد عليهم الأمر ولا يرتفع عنهم التكليف، والسابقون لهم قرب عند الله، كما يكون لجلساء الملوك، فهم لا يكون بيدهم شغل ولا يرد عليهم أمر، فيلتذون بالقرب، ويتنعمون بالراحة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٩٣
٣٩٣
وهذا خبر بعد خبر، وفيه مسائل.
المسألة الأولى : قد ذكرت أن قوله :﴿وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ﴾ (الواقعة : ١٠) جملة، وإنما كان الخبر عين المبتدأ / لظهور حالهم أو لخفاء أمرهم على غيرهم، فكيف جاء خبر بعده ؟
نقول : ذلك المقصود قد أفاد ذكر خبر آخر لمقصود آخر، كما أن واحداً يقول : زيد لا يخفى عليك حاله إشارة إلى كونه من المشهورين ثم يشرع في حال يخفى على السامع مع أنه قال : لا يخفى، لأن ذلك كالبيان كونه ليس من الغرباء كذلك ههنا قال :﴿وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ﴾ لبيان عظمتهم ثم ذكر حال عددهم.
المسألة الثانية :﴿الاوَّلِينَ﴾ من هم ؟
نقول : المشهور أنهم من كان قبل نبينا صلى الله عليه وسلّم وإنما قال :﴿ثُلَّةٌ﴾ والثلة الجماعة العظيمة، لأن من قبل نبينا من الرسل والأنبياء من كان من كبار أصحابهم إذا جمعوا يكونون أكثر بكثير من السابقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلّم، وعلى هذا قيل : إن الصحابة لما نزلت هذه الآية صعب عليهم قلتهم، فنزل بعده :﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ﴾ (الواقعة : ١٣)، ﴿وَثُلَّةٌ مِّنَ الاخِرِينَ﴾ (الواقعة : ٤٠) هذا في غاية الضعف من وجوه أحدها : أن عدد أمة محمد صلى الله عليه وسلّم إذا كان في ذلك الزمان بل إلى آخر الزمان، بالنسبة إلى من مضى في غاية القلة فماذا كان عليهم من إنعام الله على خلق كثير من الأولين وما هذا إلا خلف غير جائز وثانيها : أن هذا كالنسخ في الأخبار وأنه في غاية البعد ثالثها : ما ورد بعدها لا يرفع هذا لأن الثلة من الأولين هنا في السابقين من الأولين وهذا ظاهر لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلّم كثروا ورحمهم الله تعالى فعفا عنهم أموراً لم تعف عن غيرهم، وجعل للنبي صلى الله عليه وسلّم الشفاعة فكثر عدد الناجين وهم أصحاب اليمين، وأما من لم يأثم ولم يرتكب الكبيرة من أمة محمد صلى الله عليه وسلّم فهم في غاية القلة وهم السابقون ورابعها : هذا توهم وكان ينبغي أن يفرحوا بهذه الآية لأنه تعالى لما قال :﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ﴾ دخل فيهم الأول من الرسل والأنبياء، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلّم، فإذا جعل قليلاً من أمته مع الرسل والأنبياء والأولياء الذين كانوا في درجة واحدة، يكون ذلك إنعاماً في حقهم ولعله إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام :"علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" الوجه الثاني : المراد منه :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٩٣


الصفحة التالية
Icon