جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٠٥
المسألة الخامسة : في قوله تعالى :﴿قِيلا﴾ قولان : أحدهما : إنه مصدر كالقول فيكون قيلا مصدراً، كما أن القول مصدر لكن لا يظهر له في باب فعل يفعل إلا حرف ثانيهما : إنه اسم والقول مصدر فهو كالسدل والستر بكسر السين اسم وبفتحها مصدر وهو الأظهر، وعلى هذا نقول : الظاهر أنه اسم مأخوذ من فعل هو : قال وقيل، لما لم يذكر فاعله، وما قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن القيل والقال، يكون معناه نهى عن المشاجرة، وحكاية أمور جرت بين أقوام لا فائدة في ذكرها، وليس فيها إلا مجرد الحكاية من غير وعظ ولا حكمة لقوله صلى الله عليه وسلّم :"رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت فسلم" وعلى هذا فالقيل اسم لقول لم يعلم قائله، والقال اسم للقول مأخوذ من قيل لما لم يذكر فاعله، تقول : قال فلان كذا، ثم قيل له : كذا، فقال : كذا، فيكون حاصل كلامه قيل وقال، وعلى هذا فالقيل اسم لقول لم يعلم قائله، والقال مأخوذ من قيل هو قال، ولقائل أن يقول : هذا باطل لقوله تعالى :﴿وَقِيلِه يَـارَبِّ إِنَّ هَـا ؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (الزخرف : ٨٨) فإن الضمير للرسول صلى الله عليه وسلّم أي يعلم الله قيل محمد :﴿وَقِيلِه يَـارَبِّ إِنَّ هَـا ؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ﴾، كما قال نوح عليه السلام :﴿إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ﴾ (نوح : ٢٧)، وعلى هذا فقوله تعالى :﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَـامٌ ﴾ (الزخرف : ٨٩) إرشاد له لئلا يدعو على قومه عند يأسه منهم كما دعا عليهم نوح عنده، وإذا كان القول مضافاً إلى محمد صلى الله عليه وسلّم فلا يكون القيل اسماً لقول لم يعلم قائله ؟
فنقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : إن قولنا : إنه اسم مأخوذ من قيل الموضوع لقول لم يعلم قائله في الأصل لا ينافي جواز استعماله في قول من علم بغير الموضوع وثانيهما : وهو الجواب الدقيق أن نقول : الهاء في :﴿وَقِيلِه ﴾ ضمير كما في ربه وكالضمير المجهول عند الكوفيين وهو ضمير الشأن، وعند البصريين قال :﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الابْصَـارُ﴾ (الحج : ٤٦) والهاء غير عائد إلى مذكور، غير أن الكوفيين جعلوه لغير معلوم والبصريين جعلوه ضمير القصة، والظاهر في هذه المسألة قول الكوفيين، وعلى هذا معنى عبارتهم بلغ غاية علم الله تعالى قيل القائل منهم :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٠٥
﴿يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَـا ؤُلاءِ﴾، إشارة إلى أن الاختصاص بذلك القول في كل أحد إنهم لا يؤمنون لعلمه أنهم قائلون بهذا وأنهم عالمون، وأهل السماء علموا بأن عند الله علم الساعة يعلمها فيعلم قول من يقول :﴿وَقِيلِه يَـارَبِّ إِنَّ هَـا ؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (الزخرف : ٨٨) من غير تعيين قول لاشتراك الكل فيه، ويؤيد هذا أن الضمير لو كان عائداً إلى معلوم فإما أن يكون إلى مذكور قبله، ولا شيء فيما / قبله يصح عود الضمير إليه، وإما إلى معلوم غير مذكور وهو محمد صلى الله عليه وسلّم لكن الخطاب بقوله :﴿فَاصْفَحِ﴾ (الحجر : ٨٥) كان يقتضي أن يقول، وقيلك يا رب لأن محمداً صلى الله عليه وسلّم هو المخاطب أولاً بكلام الله، وقد قال قبله :﴿وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُمْ﴾ (الزخرف : ٨٧) وقال من قبل :﴿قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ﴾ (الزخرف : ٨١) وكان هو المخاطب أولاً، إذا تحقق هذا ؟
نقول : إذا تفكرت في استعمال لفظ القيل في القرآن ترى ما ذكرنا ملحوظاً مراعى، فقال ههنا :﴿إِلا قِيلا سَلَـامًا سَلَـامًا﴾ لعدم اختصاص هذا القول بقائل دون قائل فيسمع هذا القول دائماً من الملائكة والناس كما قال تعالى :﴿وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ﴾ (الرعد : ٢٣، ٢٤) وقال تعالى :﴿سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ (يس : ٥٨) حيث كان المسلم منفرداً، وهو الله كأنه قال : سلام قولاً منا، وقال تعالى :﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَـالِحًا﴾ (فصلت : ٣٣) وقال :﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ﴾ (المزمل : ٦) لأن الداعي معين وهم الرسل ومن اتبعهم من الأمة وكل من قام ليلاً فإن قوله : قويم، ونهجه مستقيم، وقال تعالى :﴿وَقِيلِه يَـارَبِّ﴾ (الزخرف : ٨٨) لأن كل أحد يقول : إنهم لا يؤمنون. أما هم فلاعترافهم ولإقرارهم وأما غيرهم فلكفرانهم بإسرافهم وإصرارهم/ ويؤيد ما ذكرنا أنه تعالى قال :﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا﴾ والاستثناء المتصل يقرب إلى المعنى بالنسبة إلى غيره وهو قول لا يعرف قائله، فقال :﴿إِلا قِيلا﴾ وهو سلام عليك، وأما قول من يعرف وهو الله فهو الأبعد عن اللغو غاية البعد وبينهما نهاية الخلاف فقال :﴿سَلَـامٌ قَوْلا﴾ (يس : ٥٨).
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٠٥


الصفحة التالية
Icon