المسألة السادسة :﴿سَلَـامٌ﴾، فيه ثلاثة أوجه أحدها : أنه صفة وصف الله تعالى بها ﴿قِيلا﴾ كما يوصف الشيء بالمصدر حيث يقال : رجل عدل، وقوم صوم، ومعناه إلا قيلا سالماً عن العيوب، وثانيها : هو مصدر تقديره، إلا أن يقولوا سلاماً وثالثها : هو بدل من ﴿قِيلا﴾، تقديره : إلا سلاماً.
المسألة السابعة : تكرير السلام هل فيه فائدة ؟
نقول : فيه إشارة إلى تمام النعمة، وذلك لأن أثر السلام في الدنيا لا يتم إلا بالتسليم ورد السلام، فكما أن أحد المتلاقيين في الدنيا يقول للآخر : السلام عليك، فيقول الآخر : وعليك السلام، فكذلك في الآخرة يقولون :﴿سَلَـامًا سَلَـامًا﴾ ثم إنه تعالى لما قال :﴿سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ (يس : ٥٨) لم يكن له رد لأن تسليم الله على عبده مؤمن له، فأما الله تعالى فهو منزه عن أن يؤمنه أحد، بل الرد إن كان فهو قول المؤمن : سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
المسألة الثامنة : ما الفرق بين قوله تعالى :﴿سَلَـامًا سَلَـامًا﴾ بنصبهما، وبين قوله تعالى :﴿قَالُوا سَلَـامًا قَالَ سَلَـامٌ ﴾ (هود : ٦٩) قلنا : قد ذكرنا هناك أن قوله :(سلام عليك) أتم وأبلغ من قولهم سلاماً عليك فإبراهيم عليه السلام أراد أن يتفضل عليهم بالذكر ويجيبهم بأحسن ما حيوا، وأما هنا فلا يتفضل أحد من أهل الجنة على الآخر مثل التفضل في تلك الصورة إذ هم من جنس واحد، وهم المؤمنون ولا ينسب أحد إلى أحد تقصيراً.
المسألة التاسعة : إذا كان قول القائل :(سلام عليك) أتم وأبلغ فما بال القراءة المشهورة / صارت بالنصب، ومن قرأ (سلام) ليس مثل الذي قرأ بالنصب، نقول ذلك من حيث اللفظ والمعنى، أما اللفظ فلأنه يستثنى من المسموع وهو مفعول منصوب، فالنصب بقوله :﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا﴾ وأما المعنى فلأنا بينا أن الاستثناء متصل، وقولهم :﴿سَلَـامٌ﴾ أبعد من اللغو من قولهم :﴿سَلَـامًا﴾ فقال :﴿إِلا قِيلا سَلَـامًا﴾ ليكون أقرب إلى اللغو من غيره، وإن كان في نفسه بعيداً عنه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٠٥
٤٠٦
لما بين حال السابقين شرع في شأن أصحاب الميمنة من الأزواج الثلاثة، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في ذكرهم بلفظ :﴿الْمَيْمَنَةِ مَآ﴾ (الواقعة : ٨) عند ذكر الأقسام، وبلفظ :﴿الْيَمِينِ مَآ﴾ عند ذكر الإنعام ؟
نقول : الميمنة مفعلة إما بمعنى موضع اليمين كالمحكمة لموضع الحكم، أي الأرض التي فيها اليمين وإما بمعنى موضع اليمن كالمنارة موضع النار، والمجمرة موضع الجمر، فكيفما كان الميمنة فيها دلالة على الموضع، لكن الأزواج الثلاثة في أول الأمر يتميز بعضهم عن بعض، ويتفرقون لقوله تعالى :﴿يَوْمَـاـاِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ (الروم) ١٤) وقال :﴿يُصَدَّعُونَ﴾ (الروم : ٤٣) فيتفرقون بالمكان فأشار في الأول إليهم بلفظ يدل على المكان، ثم عند الثواب وقع تفرقهم بأمر مبهم لا يتشاركون فيه كالمكان، فقال :﴿وَأَصْحَـابُ الْيَمِينِ﴾ وفيه وجوه أحدها : أصحاب اليمين الذين يأخذون بأيمانهم كتبهم ثانيها : أصحاب القوة ثالثها : أصحاب النور، وقد تقدم بيانه.
المسألة الثانية : ما الحكمة في قوله تعالى :﴿فِى سِدْرٍ﴾ وأية نعمة تكون في كونهم في سدر، والسدر من أشجار البوادي، لا بمر ولا بحلو ولا بطيب ؟
نقول : فيه حكمة بالغة غفلت عنها الأوائل والأواخر، واقتصروا في الجواب والتقريب أن الجنة تمثل بما كان عند العرب عزيزاً محموداً، وهو صواب ولكنه غير فائق، والفائق الرائق الذي هو بتفسير كلام الله لائق، هو أن نقول : إنا قد بينا مراراً أن البليغ يذكر طرفي أمرين، يتضمن ذكرهما الإشارة إلى جميع ما بينهما، كما يقال : فلان ملك الشرق والغرب، ويفهم منه أنه ملكهما وملك ما بينهما، ويقال : فلان أرضى الصغير والكبير، ويفهم منه أنه أرضى كل أحد إلى غير ذلك، فنقول : لا خفاء في أن تزين المواضع التي يتفرج فيها بالأشجار، وتلك الأشجار تارة يطلب منها نفس الورق والنظر إليه والاستظلال به، وتارة يقصد إلى ثمارها، وتارة يجمع بينهما، لكن الأشجار أوراقها على أقسام كثيرة، ويجمعها نوعان : أوراث صغار، وأوراق كبار، والسدر في غاية الصغر، والطلح وهو شجر الموز في غاية الكبر، فقوله تعالى :﴿فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ﴾ إشارة إلى ما يكون ورقه / في غاية الصغر من الأشجار، وإلى ما يكون ورقه في غاية الكبر منها، فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظراً إلى أوراقها، والورق أحد مقاصد الشجر ونظيره في الذكر ذكر النخل والرمان عند القصد إلى ذكر الثمار، لأن بينهما غاية الخلاف كما بيناه في موضعه، فوقعت الإشارة إليهما جامعة لجميع الأشجار نظراً إلى ثمارها، وكذلك قلنا في النخيل والأعناب، فإن النخل من أعظم الأشجار المثمرة، والكرم من أصغر الأشجار المثمرة، وبينهما أشجار فوقعت الإشارة إليهما جامعة لسائر الأشجار، وهذا جواب فائق وفقنا الله تعالى له.