المسألة الخامسة : كيف اشتهر ﴿مِتْنَا﴾ بكسر الميم مع أن استعمال القرآن في المستقبل يموت قال تعالى عن يحيى وعيسى عليهما السلام :﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ (مريم : ٣٣) ولم يقرأ أمات على وزن أخاف، وقال تعالى :﴿قُلْ مُوتُوا ﴾ (آل عمران : ١١٩) ولم يقل : قل ماتوا، وقال تعالى :﴿وَلا تَمُوتُنَّ﴾ (آل عمران : ١٠٢) ولم يقل : ولا تماتوا كما قال :﴿أَلا تَخَافُوا ﴾ (الصافات : ٣٠) أقلنا : فيه وجهان أحدهما : أن هذه الكلمة خالفت غيرها، فقيل فيها :﴿أَمْوَاتٌ﴾ والسماع مقدم على القياس والثاني : مات يمات لغة في مات يموت، فاستعمل ما فيها الكسر لأن / الكسر في الماضي يوجد أكثر الأمرين أحدهما : كثرة يفعل على يفعل وثانيهما : كونه على فعل يفعل، مثل خاف يخاف، وفي مستقبلها الضم لأنه يوجد لسببين أحدهما : كون الفعل على فعل يفعل، مثل طال يطول، فإن وصفه بالتطويل دون الطائل يدل على أنه من باب قصر يقصر، وثانيهما : كونه على فعل يفعل، تقول : فعلت في الماضي بالكسر وفي المستقبل بالضم.
المسألة السادسة : كيف أتى باللام المؤكدة في قوله :﴿لَمَبْعُوثُونَ﴾ مع أن المراد هو النفي وفي النفي لا يذكر في خبر إن اللام يقال : إن زيداً ليجيء وإن زيداً لا يجيء، فلا تذكر اللام، وما مرادهم بالاستفهام إلا الإنكار بمعنى إنا لا نبعث ؟
نقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : عند إرادة التصريح بالنفي يوجد التصريح بالنفي وصيغته ثانيهما : أنهم أرادوا تكذيب من يخبر عن البعث فذكروا أن المخبر عنه يبالغ في الإخبار ونحن نستكثر مبالغته وتأكيده فحكوا كلامهم على طريقة الاستفهام بمعنى الإنكار، ثم إنهم أشاروا في الإنكار إلى أمور اعتقدوها مقررة لصحة إنكارهم فقالوا أولاً :﴿أَاـاِذَا مِتْنَا﴾ ولم يقتصروا عليه بل قالوا بعده :﴿وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا﴾ أي فطال عهدنا بعد كوننا أمواتاً حتى صارت اللحوم تراباً والعظام رفاتاً، ثم زادوا وقالوا : مع هذا يقال لنا :﴿أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ بطريق التأكيد من ثلاثة أوجه أحدها : استعمال كلمة إن ثانيها : إثبات اللام في خبرها ثالثها : ترك صيغة الاستقبال، والإتيان بالمفعول كأنه كائن، فقالوا لنا :﴿أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ ثم زادوا وقالوا :﴿أَوَ ءَابَآؤُنَا الاوَّلُونَ﴾ يعني هذا أبعد فإنا إذا كنا تراباً بعد موتنا والآباء حالهم فوق حال العظام الرفات فكيف يمكن البعث ؟
وقد بينا في سورة والصافات هذا كله وقلنا : إن قوله :﴿أَوَ ءَابَآؤُنَا الاوَّلُونَ﴾ (الصافات : ١٧) معناه : أو يقولوا : آباؤنا الأولون، إشارة إلى أنهم في الإشكال أعظم، ثم إن الله تعالى أجابهم ورد عليهم في الجواب في كل مبالغة بمبالغة أخرى فقال :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤١٥
٤١٥
فقوله :﴿قُلْ﴾ إشارة إلى أن الأمر في غاية الظهور، وذلك أن في الرسالة أسراراً لا تقال إلا للأبرار، ومن جملتها تعيين وقت القيامة لأن العوام لو علموا لاتَّكلوا والأنبياء ربما اطلعوا على علاماتها أكثر مما بينوا وربما بينوا للأكابر من الصحابة علامات على ما نبين ففيه وجوه أولها : قوله :﴿قُلْ﴾ يعني أن هذا من جملة الأمور التي بلغت في الظهور إلى حد يشترك فيه العوام والخواص، فقال : قل قولاً عاماً وهكذا في كل موضع، قال : قل كان الأمر ظاهراً، قال الله تعالى :﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ (الصمد : ١) وقال :﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ (الكهف : ١١٠) وقال :﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى﴾ (الإسراء : ٨٥) أي هذا هو الظاهر من أمر الروح وغيره خفي ثانيها : قوله تعالى :﴿إِنَّ الاوَّلِينَ وَالاخِرِينَ﴾ بتقديم الأولين على الآخرين في جواب قولهم :﴿أَوَ ءَابَآؤُنَا الاوَّلُونَ﴾ (الواقعة : ٤٨) فإنهم أخروا ذكر الآباء لكون الاستبعاد فيهم أكثر، فقال إن الأولين الذين تستبعدون بعثهم وتؤخرونهم يبعثهم الله في أمر مقدم على الآخرين، يتبين منه إثبات / حال من أخرتموه مستبعدين، إشارة إلى كون الأمر هيناً ثالثها : قوله تعالى :﴿لَمَجْمُوعُونَ﴾ فإنهم أنكروا قوله :﴿لَمَبْعُوثُونَ﴾ (الواقعة : ٤٧) فقال : هو واقع مع أمر زائد، وهو أنهم يحشرون ويجمعون في عرصة الحساب، وهذا فوق البعث، فإن من بقي تحت التراب مدة طويلة ثم حشر ربما لا يكون له قدرة على الحركة، وكيف لو كان حياً محبوساً في قبره مدة لتعذرت عليه الحركة، ثم إنه تعالى بقدرته يحركه بأسرع حركة ويجمعه بأقوى سير، وقوله تعالى :﴿لَمَجْمُوعُونَ﴾ فوق قول القائل : مجموعون كما قلنا : إن قول قول القائل : إنه يموت في إفادة التوكيد دون قوله : إنه ميت رابعها : قوله تعالى :﴿إِلَى مِيقَـاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ فإنه يدل على أن الله تعالى يجمعهم في يوم واحد معلوم، واجتماع عدد من الأموات لا يعلم عددهم إلا الله تعالى في وقت واحد أعجب من نفس البعث وهذا كقوله تعالى في سورة والصافات :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤١٥


الصفحة التالية
Icon