المسألة الثالثة : ما المعنى من قوله. ﴿فَلا أُقْسِمُ﴾ مع أنك تقول : إنه قسم ؟
نقول : فيه وجوه منقولة ومعقولة غير مخالفة للنقل، أما المنقول فأحدها : أن (لا) زائدة مثلها في قوله تعالى :﴿لِّئَلا يَعْلَمَ﴾ (الحديد : ٢٩) معناه ليعلم ثانيها : أصلها لأقسم بلام التأكيد أشبعت فتحتها فصارت لا كما في الوقف ثالثها : لا، نافية وأصله على مقالتهم والقسم بعدها كأنه قال : لا، والله لا صحة لقول الكفار أقسم عليه، أما المعقول فهو أن كلمة لا هي نافية على معناها غير أن في الكلام مجازاً تركيبياً، وتقديره أن نقول : لا في النفي هنا كهي في قول القائل لا تسألني عما جرى علي، يشير إلى أن ما جرى عليه أعظم من أن يشرح فلا ينبغي أن يسأله فإن غرضه من السؤال لا يحصل ولا يكون غرضه من ذلك النهي إلا بيان عظمة الواقعة ويصير كأنه قال : جرى على أمر عظيم. ويدل عليه أن السامع يقول : له ماذا جرى عليك ولو فهم من حقيقة كلامه النهي عن السؤال لما قال : ماذا جرى عليك، فيصح منه أن يقول : أخطأت حيث منعتك عن السؤال، ثم سألتني وكيف لا، وكثيراً ما يقول ذلك القائل الذي قال : لا تسألني عند سكون صاحبه عن السؤال، أو لا تسألني، ولا تقول : ماذا جرى عليك ولا يكون للسامع أن يقول : إنك منعتني عن السؤال كل ذلك تقرر في أفهامهم أن المراد تعظيم الواقعة لا النهي، إذا علم هذا فنقول في القسم : مثل هذا موجود من أحد وجهين إما لكون الواقعة في غاية الظهور فيقول : لا أقسم بأنه على هذا الأمر لأنه أظهر من أن يشهر، وأكثر من أن ينكر، فيقول : لا أقسم ولا يريد به القسم ونفيه، وإنما يريد الإعلام بأن الواقعة ظاهرة، وإما لكون المقسم به فوق ما يقسم به، والمقسم صار يصدق نفسه فيقول لا أقسم يميناً بل ألف يمين، ولا أقسم برأس الأمير بل برأس السلطان ويقول : لا أقسم بكذا مريداً لكونه في غاية الجزم والثاني : يدل عليه أن هذه الصيغة لم ترد في القرآن والمقسم به هو الله تعالى أو صفة من صفاته/ وإنما جاءت أمور مخلوقة والأول لا يرد عليه إشكال إن قلنا إن المقسم به في جميع المواضع رب الأشياء كما في قوله :﴿وَالصَّـا فَّـاتِ﴾ (الصافات : ١) المراد منه رب الصافات ورب القيامة ورب الشمس إلى غير ذلك فإذاً قوله :﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ أي الأمر أظهر من أن يقسم عليه، وأن يتطرق الشك إليه.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٣٤
المسألة الرابعة : مواقع النجوم ما هي ؟
فنقول : فيه وجوه الأول : المشارق والمغارب أو المغارب وحدها، فإن عندها سقوط النجوم الثاني : هي مواضعها في السماء في بروجها ومنازلها الثالث : مواقعها في اتباع الشياطين عند المزاحمة الرابع : مواقعها يوم القيامة حين تنتثر النجوم، وأما مواقع نجوم القرآن، فهي قلوب عباده وملائكته ورسله وصالحي المؤمنين، أو معانيها وأحكامها التي وردت فيها.
المسألة الخامسة : هل في اختصاص مواقع النجوم للقسم بها فائدة ؟
قلنا : نعم فائدة جليلة، وبيانها أنا قد ذكرنا أن القسم بمواقعها كما هي قسم كذلك هي من الدلائل، وقد بيناه في الذاريات، وفي الطور، وفي النجم، وغيرها، فنقول : هي هنا أيضاً كذلك، وذلك من حيث إن الله تعالى لما ذكر خلق الآدمي من المنى وموته، بين بإشارته إلى إيجاد الضدين في الأنفس قدرته واختياره، ثم لما ذكر دليلاً من دلائل الأنفس ذكر من دلائل الآفاق أيضاً قدرته واختياره، فقال :﴿أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ﴾ (الواقعة : ٦٣) ﴿أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ﴾ (الواقعة : ٦٨) إلى غير ذلك، وذكر قدرته على زرعه وجعله حطاماً، وخلقه الماء فراتاً عذباً، وجعله أجاجاً، إشارة إلى أن القادر على الضدين مختار، ولم يكن ذكر من الدلائل السماوية شيئاً، فذكر الدليل السماوي في معرض القسم، وقال : مواقع النجوم، فإنها أيضاً دليل الاختيار، لأن كون كل واحد في موضع من السماء دون غيره من المواضع مع استواء المواضع في الحقيقة دليل فاعل مختار، فقال :﴿بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ ليس إلى البراهين النفسية والآفاقية بالذكر كما قال تعالى :﴿سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ﴾ (فصلت : ٥٣) وهذا كقوله تعالى :﴿وَفِى الارْضِ ءَايَـاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِى أَنفُسِكُم أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ (الذاريات : ٢٠، ٢١) ﴿وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ (الذاريات : ٢٢) حيث ذكر الأنواع الثلاثة كذلك هنا، ثم قال تعالى :﴿وَإِنَّه لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ والضمير عائد إلى القسم الذي يتضمنه قوله تعالى :﴿فَلا أُقْسِمُ﴾ فإنه يتضمن ذكر المصدر، ولهذا توصف المصادر التي لم تظهر بعد الفعل، فيقال : ضربته قوياً، وفيه مسائل نحوية ومعنوية، أما النحوية :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٣٤