المسألة الثانية : جاء في بعض الفواتح ﴿سَبَّحَ﴾ على لفظ الماضي، وفي بعضها على لفظ المضارع، وذلك إشارة إلى أن كون هذه الأشياء مسبحة غير مختص بوقت دون وقت، بل هي كانت مسبحة أبداً في الماضي، وتكون مسبحة أبداً في المستقبل، وذلك لأن كونها مسبحة صفة لازمة لماهياتها، فيستحيل انفكاك تلك الماهيات عن ذلك التسبيح، وإنما قلنا : إن هذه المسبحية صفة لازمة لماهياتها، لأن كل ما عدا الواجب ممكن، وكل ممن فهو مفتقر إلى الواجب، وكون الواجب واجباً يقتضي تنزيهه عن كل سوء في الذات والصفات والأفعال والأحكام والأسماء على ما بيناه، فظهر أن هذه المسبحية كانت حاصلة في الماضي، وتكون حاصلة في المستقبل، والله أعلم.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٤٨
المسألة الثالثة : هذا الفعل تارة عدي باللام كما في هذه السورة، وأخرى بنفسه كما في قوله :﴿وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا﴾ وأصله التعدي بنفسه، لأن معنى سبحته أي بعدته عن السوء، فاللام إما أن تكون مثل اللام في نصحته ونصحت له، وإما أن يراد يسبح لله أحدث التسبيح لأجل الله وخالصاً لوجهه.
المسألة الرابعة : زعم الزجاج أن المراد بهذا التسبيح، التسبيح الذي هو القول، واحتج عليه بوجهين الأول : أنه تعالى قال :﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ (الإسراء : ٤٤) فلو كان المراد من التسبيح، هو دلالة آثار الصنع على الصانع لكانوا يفقهونه الثاني : أنه تعالى قال :﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُادَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ﴾ (الأنبياء : ٧٩) فلو كان تسبيحاً عبارة عن دلالة الصنع على الصانع لما كان في ذلك تخصيص لداود عليه السلام. واعلم أن هذا الكلام ضعيف (لحجتين) :
أما الأولى : فلأن دلالة هذه الأجسام على تنزيه ذات الله وصفاته وأفعاله من أدق الوجوه، ولذالك فإن العقلاء اختلفوا فيها، فقوله :﴿وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ﴾ لعله إشارة إلى أقوام جهلوا بهذه الدلالة، وأيضاً فقوله :﴿لا تَفْقَهُونَ﴾ إشارة إن لم يكن إشارة إلى جمع معين، فهو خطاب مع الكل فكأنه قال : كل هؤلاء ما فقهوا ذلك، وذلك لا ينافي أن يفقهه بعضهم.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٤٨
وأما الحجة الثانية : فضعيفة، لأن هناك من المحتمل أن الله خلق حياة في الجبل حتى نطق بالتسبيح. أما هذه الجمادات التي تعلم بالضرورة أنها جمادات يستحيل أن يقال : إنها تسبح الله على سبيل النطق بذلك التسبيح، إذ لو جوزنا صدور الفعل المحكم عن الجمادات لما أمكننا أن نستدل بأفعال الله تعالى على كونه عالماً حياً، وذلك كفر، بل الحق أن التسبيح الذي هو القول لا يصدر إلا من العاقل العارف بالله تعالى، فينوي بذلك القول تنزيه ربه سبحانه، ومثل ذلك لا يصح من الجمادات، فإذاً التسبيح العام الحاصل من العاقل والجماد لا بد وأن يكون مفسراً بأحد وجهين الأول : أنها تسبح بمعنى أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه والثاني : أن الممكنات بأسرها منقادة له يتصرف فيها كيف يريد ليس له عن فعله وتكوينه مانع ولا دافع، إذا عرفت هذه المقدمة، فنقول : إن حملنا / التسبيح المذكور في الآية على التسبيح بالقول، كان المراد بقوله :﴿مَا فِي السَّمَـاوَاتِ﴾ من في السموات ومنهم حملة العرش :﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ﴾ (فصلت : ٣٨) ومنهم المقربون :﴿قَالُوا سُبْحَـانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ ﴾ (سبأ : ٤١) ومن سائر الملائكة :﴿قَالُوا سُبْحَـانَكَ مَا كَانَ يَنابَغِى لَنَآ﴾ (الفرقان : ١٨) وأما المسبحون الذين هم في الأرض فمنهم الأنبياء كما قال ذو النون :﴿لا إِلَـاهَ إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ﴾ (الأنبياء : ٨٧) وقال موسى :﴿سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ (الأعراف : ١٤٣) والصحابة يسبحون كما قال :﴿سُبْحَـانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران : ١٩١) وأما إن حملنا هذا التسبيح على التسبيح المعنوي : فأجزاء السموات وذرات الأرض والجبال والرمال والبحار والشجر والدواب والجنة والنار والعرش والكرسي واللوح والقلم والنور والظلمة والذوات والصفات والأجسام والأعراض كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال الله منقادة لتصرف الله كما قال عز من قائل :﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه ﴾ (الإسراء : ٤٤) وهذا التسبيح هو المراد بالسجود في قوله :﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ﴾ (النحل : ٤٩) أما قوله :﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فالمعنى أنه القادر الذي لا ينازعه شيء، فهو إشارة إلى كمال القدرة، والحكيم إشارة إلى أنه العالم الذي لا يحتجب عن علمه شيء من الجزئيات والكليات أو أنه الذي يفعل أفعاله على وفق الحكمة والصواب، ولما كان العلم بكونه قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً لا جرم قدم العزيز على الحكيم في الذكر.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٤٨


الصفحة التالية
Icon