واعلم أن قوله :﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ يدل على أن العزيز ليس إلا هو لأن هذه الصيغة تفيد الحصر، يقال : زيد هو العالم لا غيره، فهذا يقتضي أنه لا إله إلا الواحد، لأن غيره ليس بعزيز ولا حكيم ومالا يكون كذلك لا يكون إلهاً.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٤٨
٤٤٩
واعلم أن الملك الحق هو الذي يستغني في ذاته، وفي جميع صفاته عن كل ما عداه، ويحتاج كل ما عداه إليه في ذواتهم وفي صفاتهم، والموصوف بهذين الأمرين ليس إلا هو سبحانه. أما أنه مستغن في ذاته وفي جميع صفاته عن كل ما عداه فلأنه لو افتقر في ذاته إلى الغير لكان ممكناً لذاته فكان محدثاً، فلم يكن واجب الوجود، وأما أنه مستغن في جميع صفاته السلبية والإضافية عن كل ما عداه، فلأن كل ما يفرض صفة له، فإما أن تكون هويته سبحانه كافية في تحقق تلك الصفة سواء كانت الصفة سلباً أو إيجاباً أو لا تكون كافية في ذلك، فإن كانت هويته كافية في ذلك من دوام تلك الهوية دوام تلك الصفة سلباً كانت الصفة أو إيجاباً، وإن لم تكن تلك لزم الهوية كافية، فحينئذ تكون تلك الهوية ممتنعة الانفكاك عن ثبوت تلك الصفة وعن سلبها، ثم ثبوت تلك الصفة وسلبها، يكون متوقفاً على ثبوت أمر آخر وسلبه، والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء، فهويته سبحانه تكون موقوفة التحقق على تحقق علة / ثبوت تلك الصفة أو علة سلبها، والموقوف على الغير ممكن لذاته فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته، وهذا خلف، فثبت أنه سبحانه غير مفتقر لا في ذاته، ولا في شيء من صفاته السلبية ولا الثبوتية إلى غيره، وأما أن كل ما عداه مفتقر إليه فلأن كل ما عداه ممكن، لأن واجب الوجود لا يكون أكثر من واحد والممكن لا بد له من مؤثر، ولا واجب إلا هذا الواحد فإذن كل ما عداه فهو مفتقر إليه سواء كان جوهراً أو عرضاً، وسواء كان الجوهر روحانياً أو جسمانياً، وذهب جمع من العقلاء إلى أن تأثير واجب الوجود في إعطاء الوجود لا في الماهيات فواجب الوجود يجعل السواد موجوداً، أما أنه يستحيل أن يجعل السواد سواداً، قالوا : لأنه لو كان كون السواد سواداً بالفاعل، لكان يلزم من فرض عدم ذلك الفاعل أن لا يبقى السواد سواداً وهذا محال، فيقال لهم يلزمكم على هذا التقدير أن لا يكون الوجود أيضاً بالفاعل، وإلا لزم من فرض عدم ذلك الفاعل أن لا يكون الوجود وجوداً، فإن قالوا : تأثير الفاعل ليس في الوجود بل في جعل الماهية موصوفة بالوجود، قلنا : هذا مدفوع من وجهين الأول : أن موصوفية الماهية بالوجود ليس أمراً ثبوتياً، إذ لو كان أمراً ثبوتياً لكانت له ماهية ووجود، فحينئذ تكون موصوفية تلك الماهية بالوجود زائدة عليه ولزم التسلسل وهو محال، وإذا كان موصوفية الماهية بالوجوه ليس أمراً ثبوتياً، استحال أن يقال : لا تأثير للفاعل في الماهية ولا في الوجود بل تأثيره في موصوفية الماهية بالوجود الثاني : أن بتقدير أن تكون تلك الموصوفية أمراً ثبوتياً، استحال أيضاً جعلها أثراً للفاعل، وإلا لزم عند فرض عدم ذلك الفاعل أن تبقى الموصوفية موصوفية، فظهر أن الشبهة التي ذكروها لو تمت واستقرت يلزم نفي التأثير والمؤثر أصلاً، بل كما أن الماهيات إنما صارت موجودة بتأثير واجب الوجود، فكذا أيضاً الماهيات إنما صارت ماهيات بتأثير واجب الوجود، وإذا لاحت هذه الحقائق ظهر بالبرهان العقلي صدق قوله تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٤٩
﴿لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ بل ملك السموات والأرض بالنسبة إلى كمال ملكه أقل من الذرة، بل لا نسبة له إلى كمال ملكه أصلاً، لأن ملك السموات والأرض ملك متناه، وكمال ملكه غير متناه، والمتناهي لا نسبة له ألبتة إلى غير المتناهي، لكنه سبحانه وتعالى ذكر ملك السموات والأرض لأنه شيء مشاهد محسوس، وأكثر الخلق عقولهم ضعيفة قلما يمكنهم الترقي من المحسوس إلى المعقول.
ثم إنه سبحانه لما ذكر من دلائل الآفاق ملك السموات والأرض ذكر بعده دلائل الأنفس فقال :﴿لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا يُحْىِا وَيُمِيتُا وَهُوَ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكر المفسرون فيه وجهين أحدهما : يحيي الأموات للبعث، ويميت الأحياء في الدنيا والثاني : قال الزجاج : يحيي النطف فيجعلها أشخاصاً عقلاء فاهمين ناطقين، ويميت / وعندي فيه وجه ثالث وهو أنه ليس المراد من تخصيص الإحياء والإماتة بزمان معين وبأشخاص معينين، بل معناه أنه هو القادر على خلق الحياة والموت، كما قال في سورة الملك :﴿الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ﴾ (الملك : ٢) والمقصود منه كونه سبحانه هو المنفرد بإيجاد هاتين الماهيتين على الإطلاق، لا يمنعه عنهما مانع ولا يرده عنهما راد، وحينئذ يدخل فيه الوجهان اللذان ذكرهما المفسرون.