المسألة الثانية : المراد من هذا اليوم هو يوم المحاسبة، واختلفوا في هذا النور على وجوه : أحدها : قال قوم : المراد نفس النور على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"أن كل مثاب فإنه يحصل له النور على قدر عمله وثوابه في العظم والصغر" فعلى هذا مراتب الأنوار مختلفة فمنهم من يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء، ومنهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من لا يضيء له نور إلا موضع قدميه، وأدناهم نوراً من يكون نوره على إبهامه ينطفىء مرة ويتقد أخرى، وهذا القول منقول عن ابن مسعود، وقتادة وغيرهما، وقال مجاهد : ما من عبد إلا وينادي يوم القيامة يا فلان ها نورك، ويا فلان لا نور لك، نعوذ بالله منه، واعلم أنا بينا في سورة النور، أن النور الحقيقي هو الله تعالى، وأن نور العلم الذي هو نور البصيرة أولى بكونه نوراً من نور البصر، وإذا كان كذلك ظهر أن معرفة الله هي النور في القيامة فمقادير الأنوار يوم القيامة على حسب مقادير المعارف في الدنيا القول الثاني : أن المراد من النور ما يكون سبباً للنجاة، وإنما قال :﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِم﴾ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كماأن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم، ووراء ظهورهم القول الثالث : المراد بهذا النور الهداية إلى الجنة، كما يقال / ليس لهذا الأمر نور، إذا لم يكن المقصود حاصلاً، ويقال : هذا الأمر له نور ورونق، إذا كان المقصود حاصلاً.
المسألة الثالثة : قرأ سهل بن شعيب ﴿وَبِأَيْمَـانِهِم﴾ بكسر الهمزة، والمعنى يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم حصل ذلك السعي، ونظيره قوله تعالى :﴿ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ (الحج : ١٠) أي ذلك كائن بذلك.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٥٩
ثم قال تعالى :﴿بُشْرَاـاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّـاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : حقيقة البشارة ذكرناها في تفسير قوله :﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ (البقرة : ٢٥، يونس : ٢) ثم قالوا : تقدير الآية، وتقول لهم الملائكة بشراكم اليوم، كما قال :﴿وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم﴾ (الرعد : ٢٣/ ٢٤).
المسألة الثانية : دلت هذه الآية على أن المؤمنين لا ينالهم أهوال يوم القيامة لأنه تعالى بين أن هذه صفتهم يوم القيامة من غير تخصيص.
المسألة الثالثة : احتج الكعبي على أن الفاسق ليس بمؤمن فقال : لو كان مؤمناً لدخل تحت هذه البشارة، ولو كان كذلك لقطع بأنه من أهل الجنة، ولما لم يكن كذلك ثبت أنه ليس بمؤمن والجواب : أن الفاسق قاطع بأنه من أهل الجنة لأنه إما أن لا يدخل النار أو إن دخلها لكنه سيخرج منها وسيدخل الجنة ويبقى فيها أبد الآباد، فهو إذن قاطع بأنه من أهل الجنة، فسقط هذا الاستدلال.
المسألة الرابعة : قوله :﴿ذَالِكَ﴾ عائد إلى جميع ما تقدم وهو النور والبشرى بالجنات المخلدة.
المسألة الخامسة : قرىء :(ذلك الفوز)، بإسقاط كلمة : هو.
واعلم أنه تعالى لما شرح حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح حال المنافقين. فقال :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٥٩
٤٦٠
قوله :﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ وَالْمُنَـافِقَـاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّه بَابُا بَاطِنُه فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَـاهِرُه مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى :﴿يَوْمَ يَقُولُ﴾، بدل من ﴿يَوْمَ تَرَى﴾ (الحديد : ١٢)، أو هو أيضاً منصوب باذكر تقديراً.
المسألة الثانية : قرأ حمزة وحده (أنظرونا) مكسورة الظاء، والباقون (أنظروا)، قال أبو علي / الفارسي لفظ النظر يستعمل على ضروب أحدها : أن تريد به نظرت إلى الشيء، فيحذف الجار ويوصل الفعل، كما أنشد أبو الحسن :
ظاهرات الجمال والحسن ينظرن
كما ينظر الأراك الظباء
والمعنى ينظرن إلى الأراك وثانيها : أن تريد به تأملت وتدبرت، ومنه قولك : إذهب فانظر زيداً أيؤمن، فهذا يراد به التأمل، ومنه قوله تعالى :﴿انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الامْثَالَ﴾ (الأسراء : ٤٨)، ﴿انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ (النساء : ٥٠)، ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ (الإسراء : ٢١) قال : وقد يتعدى هذا بإلى كقوله :﴿أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الابِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ (الغاشية : ١٧) وهذا نص على التأمل، وبين وجه الحكمة فيه، وقد يتعدى بفي، كقوله :﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (الأعراف : ١٨٥)، ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِى أَنفُسِهِم ﴾ (الروم : ٨) وثالثها : أن يراد بالنظر الرؤية كما في قوله :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٦٠
ولما بدا حوران والآل دونه


الصفحة التالية
Icon