نظرت فلم تنظر بعينك منظراً
والمعنى نظرت، فلم تر بعينك منظراً تعرفه في الآل قال : إلا أن هذا على سبيل المجاز، لأنه دلت الدلائل على أن النظر عبارة عن تقلب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته، فلما كانت الرؤية من توابع النظر ولوازمه غالباً أجرى على الرؤية لفظ النظر على سبيل إطلاق اسم السبب على المسبب قال : ويجوز أن يكون قوله : نظرت فلم تنظر، كما يقال : تكلمت وما تكلمت، أي ما تكلمت بكلام مفيد، فكذا هنا نظرت وما نظرت نظراً مفيداً ورابعها : أن يكون النظر بمعنى الانتظار، ومنه قوله تعالى :﴿إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَـاظِرِينَ إِنَـاـاهُ﴾ (الأحزاب : ٥٣) أي غير منتظرين إدراكه وبلوغه، وعلى هذا الوجه يكون نظرت معناه انتظرت، ومجيء فعلت وافتعلت بمعنى واحد كثير، كقولهم : شويت واشتويت، وحقرت واحتقرت، إذا عرفت هذا فقوله :﴿انظُرُونَا﴾ يحتمل وجهين الأول : أنظرونا، أي انتظرونا، لأنه يسرع بالمؤمنين إلى الجنة كالبروق الخاطفة، والمنافقون مشاة والثاني : أنظرونا أي أنظروا إلينا، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم، والنور بين أيديهم فيستضيئون به، وأما قراءة (أنظرونا) مكسورة الظاء فهي من النظرة والإمهال، ومنه قوله تعالى :﴿أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (الحجر : ٣٦) وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإنظار المعسر، والمعنى أنه جعل اتئادهم في المشي إلى أن يلحقوا بهم إنظاراً لهم.
واعلم أن أبا عبيدة والأخفش كانا يطعنان في حصة هذه القراءة/ وقد ظهر الآن وجه صحتها.
المسألة الثالثة : اعلم أن الاحتمالات في هذا الباب ثلاثة أحدها : أن يكون الناس كلهم في الظلمات، ثم إنه تعالى يعطي المؤمنين هذه الأنوار، والمنافقون يطلبونها منهم وثانيها : أن تكون الناس كلهم في الأنوار، ثم إن المؤمنين يكونون في الجنات فيمرون سريعاً، والمنافقون يبقون وراءهم فيطلبون منهم الانتظار وثالثها : أن يكون المؤمنون في النور والمنافقون في الظلمات، ثم المنافقون يطلبون النور مع المؤمنين، وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الاحتمالات قوم، فإن كانت هذه الحالة إنما تقع / عند الموقف، فالمراد من قوله :﴿انظُرُونَا﴾ انظروا إلينا، لأنهم إذا نظروا إليهم، فقد أقبلوا عليهم، ومتى أقبلوا عليهم وكانت أنوارهم من قدامهم استضاءوا بتلك الأنوار، وإن كانت هذه الحالة إنما تقع عند مسير المؤمنين إلى الجنة، كان المراد من قوله :﴿انظُرُونَا﴾ يحتمل أن يكون هو الانتظار وأن يكون النظر إليهم.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٦٠
المسألة الرابعة : القبس : الشعلة من النار أو السراج، والمنافقون طمعوا في شيء من أنوار المؤمنين أن يقتبسوه كاقتباس نيران الدنيا وهو منهم جهل، لأن تلك الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا، فلما لم توجد تلك الأعمال في الدنيا امتنع حصول تلك الأنوار في الآخرة، قال الحسن : يعطى يوم القيامة كل أحد نوراً على قدر عمله، ثم إنه يؤخذ من حر جهنم ومما فيه من الكلاليب والحسك ويلقى على الطريق، فتمضي زمرة من المؤمنين وجوههم كالقمر ليلة البدر، ثم تمضي زمرة أخرى كأضواء الكواكب في السماء، ثم على ذلك تغشاهم ظلمة فتطفىء نور المنافقين، فهنالك يقول المنافقون للمؤمنين :﴿انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾ كقبس النار.
المسألة الخامسة : ذكروا في المراد من قوله تعالى :﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ وجوهاً أحدها : أن المراد منه : ارجعوا إلى دار الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار هنالك، فإن هذه الأنوار إنما تتولد من اكتساب المعارف الإلهية، والأخلاق الفاضلة والتنزه عن الجهل والأخلاق الذميمة، والمراد من ضرب السور، هو امتناع العود إلى الدنيا وثانيها : قال أبو أمامة : الناس يكونون في ظلمة شديدة، ثم المؤمنون يعطون الأنوار، فإذا أسرع المؤمن في الذهاب قال المنافق :﴿انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾ فيقال لهم :﴿ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ قال : وهي خدعة خدع بها المنافقون، كما قال :﴿يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ﴾ (النساء : ١٤٢) فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً، فينصرفون إليهم فيجدون السور مضروباً بينهم وبين المؤمنين وثالثها : قال أبو مسلم : المراد من قول المؤمنين :﴿ارْجِعُوا ﴾ منع المنافقين عن الاستضاءة، كقول الرجل لمن يريد القرب منه : وراءك أوسع لك، فعلى هذا القول المقصود من قوله :﴿ارْجِعُوا ﴾ أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب ألبتة، لا أنه أمر لهم بالرجوع.
قوله تعالى :﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّه بَابُا بَاطِنُه فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَـاهِرُه مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ وفيه مسألتان :


الصفحة التالية
Icon