المسألة الرابعة : أنه تعالى لم يقل : إن جميع الحوادث مكتوبة في الكتاب، لأن حركات أهل الجنة والنار غير متناهية، فإثباتها في الكتاب محال، وأيضاً خصص ذلك بالأرض والأنفس وما أدخل فيها أحوال السموات، وأيضاً خصص ذلك بمصائب الأرض والأنفس لا بسعادات الأرض والأنفس، وفي كل هذه الرموز إشارات وأسرار، أما قوله :﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ ﴾ فقد اختلفوا فيه، فقال بعضهم : من قبل أن نخلق هذه المصائب، وقال بعضهم : بل المراد الأنفس، وقال آخرون : بل المراد نفس الأرض، والكل محتمل لأن ذكر الكل قد تقدم، وإن كان الأقرب نفس المصيبة لأنها هي المقصود، وقال آخرون : المراد من قبل أن نبرأ المخلوقات، والمخلوقات وإن لم يتقدم ذكرها إلا أنها لظهورها يجوز عود الضمير إليها كما في قوله :﴿إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ﴾ (يوسف : ٢).
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ وفيه قولان : أحدهما : إن حفظ ذلك على الله هين، والثاني : إن إثبات ذلك على كثرته في الكتاب يسير على الله وإن كان عسيراً على العباد، ونظير هذه الآية قوله :﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِه إِلا فِى كِتَـابٍا إِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ (فاطر : ١١).
[بم / ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٦٩
٤٧٢
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذه اللام تفيد جعل أول الكلام سبباً لآخره، كما تقول : قمت لأضربك فإنه يفيد أن القيام سبب للضرب، وههنا كذلك لأنه تعالى بين أن إخبار الله عن كون هذه الأشياء واقعة بالقضاء والقدر، ومثبتة في الكتاب الذي لا يتغير يوجب أن لا يشتد فرح الإنسان بما وقع، وأن لا يشتد حزنه بما لم يقع، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام :"من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب" وتحقيق الكلام فيه أن على مذهب أهل السنة أن وقوع كل ما وقع واجب، وعدم كل ما لم يقع واجب أيضاً لأسباب أربعة أحدها : أن الله تعالى علم وقوعه، فلو لم يقع انقلب العلم جهلاً ثانيها : أن الله أراد وقوعه، فلو لم يقع انقلبت الإرادة تمنياً ثالثها : أنه تعلقت قدرة الله تعالى بإيقاعه، فلو لم يقع لانقلبت تلك القدرة عجزاً، رابعها : أن الله تعالى حكم بوقوعه بكلامه الذي هو صدق فلو لم يقع لانقلب ذلك الخبر الصدق كذباً، فإذن هذا الذي وقع لو لم يقع لتغيرت هذه الصفات الأربعة من كمالها إلى النقص، ومن قدمها إلى الحدوث، ولما كان ذلك ممتنعاً علمنا أنه لا دافع لذلك الوقوع، وحينئذ يزول الغم والحزن، عند ظهور هذه الخواطر وهانت عليه المحن والمصائب، وأما المعتزلة فهب أنهم ينازعون في القدرة والإرادة، ولكنهم يوافقون في العلم والخير، وإذا كان الجبر لازماً في هاتين الصفتين، فأي فرق بين أن يلزم الجبر بسبب هاتين الصفتين وبين أن يلزم بسبب الصفات الأربع، وأما الفلاسفة فالجبر مذهبهم، وذلك لأنهم ربطوا حدوث الأفعال الإنسانية بالتصورات الذهنية والتخيلات الحيوانية، ثم ربطوا تلك التصورات والتخيلات بالأدوار الفلكية التي لها مناهج مقدرة، ويمتنع وقوع ما يخالفها، وأما الدهرية الذين لا يثبتون شيئاً من المؤثرات فهم لا بد وأن يقولوا بأن حدوث الحوادث اتفاقي، وإذا كان اتفاقياً لم يكن اختيارياً، فيكون الجبر لازماً، فظهر أنه لا مندوحة عن هذا لأحد من فرق العقلاء، سواء أقروا به أو أنكروه، فهذا بيان وجه استدلال أهل السنة بهذه الآية، قالت المعتزلة : الآية دالة على صحة مذهبنا في كون العيد متمكناً مختاراً، وذلك من وجوه الأول : أن قوله :﴿لِّكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ يدل على أنه تعالى إنما أخبرهم بكون تلك المصائب مثبتة في الكتاب لأجل أن يحترزوا عن الحزن والفرح، ولولا أنهم قادرون على تلك الأفعال لما بقي لهذه اللام فائدة والثاني : أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لا يريد أن يقع منهم الحزن والفرح وذلك خلاف قول المجبرة : إن الله تعالى / أراد كل ذلك منهم والثالث : أنه تعالى قال بعد هذه الآية :﴿وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ وهذا يدل على أنه تعالى لا يريد ذلك لأن المحبة والإرادة سواء، فهو خلاف قول المجبرة : إن كل واقع فهو مراد الله تعالى الرابع : أنه تعالى أدخل لام التعليل على فعله بقوله :﴿لِّكَيْلا﴾ وهذا يدل على أن أفعال الله تعالى معللة بالغرض، وأقول : العاقل يتعجب جداً من كيفية تعلق هذه الآيات بالجبر والقدر وتعلق كلتا الطائفتين بأكثرها.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٧٢


الصفحة التالية
Icon