الاحتمال الثاني : في قوله :﴿ثُمَّ يَعُودُونَ﴾ أي يفعلون مثل ما فعلوه، وعلى هذا الاحتمال في الآية أيضاً وجوه الأول : قال الثوري : العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام، وتقريره أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار، فجعل الله تعالى حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية، فقال :﴿وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِن نِّسَآاـاِهِمْ﴾ يريد في الجاهلية :﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ﴾ أي في الإسلام والمعنى أنهم يقولون في الإسلام مثل ما كانوا يقولونه في الجاهلية، فكفارته كذا وكذا، قال أصحابنا هذا القول ضعيف لأنه تعالى ذكر الظهار وذكر العود بعده بكلمة : ثم وهذا يقتضي أن يكون المراد من العود شيئاً غير الظهار، فإن قالوا : المراد والذين كانوا يظاهرون من نسائهم قبل الإسلام، والعرب / تضمر لفظ كان، كما في قوله :﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَـاطِينُ﴾ أي ما كانت تتلو الشياطين، قلنا : الإضمار خلاف الأصل القول الثاني : قال أبو العالية : إذا كرر لفظ الظهار فقد عاد، فإن لم يكن يكرر لم يكن عوداً، وهذا قول أهل الظاهر، واحتجوا عليه بأن ظاهر قوله :﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ﴾ يدل على إعادة ما فعلوه، وهذا لا يكون إلا بالتكرير، وهذا أيضاً ضعيف من وجهين : الأول : أنه لو كان المراد هذا لكان يقول، ثم يعيدون ما قالوا الثاني : حديث أوس فإنه لم يكرر الظهار إنما عزم على الجماع وقد ألزمه رسول الله الكفارة، وكذلك حديث سلمة بن صخرة البياضي فإنه قال : كنت لا أصبر عن الجماع فلما دخل شهر رمضان ظاهرت من امرأتي مخافة أن لا أصبر عنها بعد طلوع الفجر فظاهرت منها شهر رمضان كله ثم لم أصبر فواقعته فأتيت رسول الله فأخبرته بذلك وقلت : أمض في حكم الله، فقال :"أعتق رقبة" فأوجب الرسول عليه السلام عليه الكفارة مع أنه لم يذكر تكرار الظهار القول الثالث : قال أبو مسلم الأصفهاني : معنى العود، هو أن يحلف على ما قال أولاً من لفظ الظهار، فإنه إذا لم يحلف لم تلزمه الكفارة قياساً على مالو قال في بعض الأطعمة، إنه حرام عليَّ كلحم الآدمي، فإنه لا تلزمه الكفارة، فأما إذا حلف عليه لزمه كفارة اليمين، وهذا أيضاً ضعيف لأن الكفارة قد تجب بالإجماع في المناسك ولا يمين هناك وفي قتل الخطأ ولا يمين هناك.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٨٨
أما قوله تعالى :﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا فيما يحرمه الظهار، فللشافعي قولان : أحدهما : أنه يحرم الجماع فقط القول الثاني : وهو الأظهر أنه يحرم جميع جهات الاستمتاعات وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ودليله وجوه الأول : قوله تعالى :﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ﴾ فكان ذلك عاماً في جميع ضروب المسيس، من لمس بيد أو غيرها والثاني : قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِن نِّسَآاـاِهِمْ﴾ ألزمه حكم التحريم بسبب أنه شبهها بظهر الأم، فكما أن مباشرة ظهر الأم ومسه يحرم عليه، فوجب أن يكون الحال في المرأة كذلك الثالث : روى عكرمة :"أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره بذلك فقال اعتزلها حتى تكفر".
المسألة الثانية : اختلفوا فيمن ظاهر مراراً، فقال الشافعي وأبو حنيفة : لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد، وأراد بالتكرار التأكيد، فإنه يكون عليه كفارة واحدة، وقال مالك : من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة مائة فليس عليه إلا كفارة واحدة، دليلنا أن قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِن نِّسَآاـاِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ يقتضي كون الظهار علة لإيجاب الكفارة، فإذا وجد الظهار الثاني فقد وجدت علة وجوب الكفارة، والظهار الثاني إما أن يكون علة للكفارة الأولى، أو لكفارة ثانية والأول باطل لأن الكفارة وجبت بالظهار الأول وتكوين الكائن محال، ولأن تأخر العلة عن الحكم محال، فعلمنا أن الظهار الثاني يوجب كفارة / ثانية، واحتج مالك بأن قوله :﴿وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ﴾ يتناول من ظاهر مرة واحدة، ومن ظاهر مراراً كثيرة، ثم إنه تعالى أوجب عليه تحرير رقبة، فعلمنا أن التكفير الواحد كاف في الظهار، سواء كان مرة واحدة أو مراراً كثيرة والجواب : أنه تعالى قال :﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَـانِكُمْ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايْمَـانَا فَكَفَّـارَتُه ا إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـاكِينَ﴾ (المائدة : ٨٩) فهذا يقتضي أن لا يجب في الإيمان الكثيرة إلا كفارة واحدة، ولما كان باطلاً، فكذا ما قلتموه.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٨٨


الصفحة التالية
Icon