المسألة الأولى : في المحادة قولان قال المبرد : أصل المحادة الممانعة، ومنه يقال للبواب : حداد، وللمنوع الرزق محدود، قال أبو مسلم الأصفهاني : المحادة مفاعلة من لفظ الحديد، والمراد المقابلة بالحديد سواء كان ذلك في الحقيقة، أو كان ذلك منازعة شديدة شبيهة بالخصومة بالحديد، أما المفسرون فقالوا : يحادون أي يعادون ويشاقون، وذلك تارة بالمحاربة مع أولياء الله وتارة بالتكذيب والصد عن دين الله.
المسألة الثانية : الضمير في قوله :﴿يُحَآدُّونَ﴾ يمكن أن يكون راجعاً إلى المنافقين، فإنهم كانوا يوادون الكافرين ويظاهرون على الرسول عليه السلام فأذلهم الله تعالى، ويحتمل سائر الكفار فأعلم الله رسوله أنهم ﴿كُبِتُوا ﴾ أي خذلوا، قال المبرد : يقال : كبت الله فلاناً إذا أذله، والمردود بالذل يقال له : مكبوت، ثم قال :﴿كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ من أعداء الرسل :﴿وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَـاتا بَيِّنَـاتٍ ﴾ / تدل على صدق الرسول :﴿وَلِلْكَـافِرِينَ﴾ بهذه الآيات :﴿عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ يذهب بعزهم وكبرهم، فبين سبحانه أن عذاب هؤلاء المحادين في الدنيا الذل والهوان، وفي الآخرة العذاب الشديد.
ثم ذكر تعالى ما به يتكامل هذا الوعيد فقال :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٩١
٤٩٢
﴿يَوْمَ﴾ منصوب بينبئهم أو بمهين أو بإضمار اذكر، تعظيماً لليوم، وفي قوله :﴿جَمِيعًا﴾ قولان : أحدهما : كلهم لا يترك منهم أحد غير مبعوث والثاني : مجتمعين في حال واحدة، ثم قال :﴿فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ﴾ تجليلاً لهم، وتوبيخاً وتشهيراً لحالهم، الذي يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار، لما يلحقهم من الخزي على رؤس الإشهاد وقوله :﴿أَحْصَـاـاهُ اللَّهُ﴾ أي أحاط بجميع أحوال تلك الأعمال من الكمية والكيفية، والزمان والمكان لأنه تعالى عالم بالجزئيات، ثم قال :﴿وَنَسُوه ﴾ لأنهم استحقروها وتهاونوا بها فلا جرم نسوها :﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ﴾ أي مشاهد لا يخفى عليه شيء ألبتة.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٩٢
٤٩٢
ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات فقال :
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ ﴾.
قال ابن عباس :﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أي ألم تعلم وأقول هذا حق لأن كونه تعالى عالماً بالأشياء لا يرى، ولكنه معلوم بواسطة الدلائل، وإنما أطلق لفظ الرؤية على هذا العلم، لأن الدليل على كونه عالماً، هو أن أفعاله محكمة متقنة منتسقة منتظمة، وكل من كانت أفعاله كذلك فهو عالم.
أما المقدمة الأولى : فمحسوسة مشاهدة في عجائب السموات والأرض، وتركيبات النبات والحيوان.
أما المقدمة الثانية : فبديهية، ولما كان الدليل الدال على كونه تعالى كذلك ظاهراً لا جرم بلغ هذا العلم والاستدلال إلى أعلى درجات الظهور والجلاء، صار جارياً مجرى المحسوس المشاهد، فلذلك أطلق لفظ الرؤية فقال :﴿أَلَمْ تَرَ﴾ وأما أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، فلأن علمه علم قديم، فلو تعلق بالبعض دون البعض من أن جميع المعلومات مشتركة في صحة المعلومية لافتقر ذلك العلم في ذلك التخصيص إلى مخصص، وهو على الله تعالى محال، فلا جرم وجب كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات، واعلم أنه سبحانه قال :﴿يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ ﴾ ولم يقل : يعلم ما في الأرض وما في السموات وفي رعاية هذا الترتيب سر عجيب.
ثم إنه تعالى خص ما يكون من العباد من النجوى فقال :
﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَالِكَ وَلا أَكْثَرَ﴾.
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن جني : قرأ أبو حيوة ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـاثَةٍ﴾ بالتاء ثم قال والتذكير الذي عليه العامة هو الوجه، لما هناك من الشياع وعموم الجنسية، كقولك : ما جاءني من امرأة، وما حضرني من جارية، ولأنه وقع الفاصل بين الفاعل والمفعول، وهو كلمة من، ولأن النجوى تأنيثه ليس تأنيثاً حقيقياً، وأما التأنيث فلأن تقدير الآية : ما تكون نجوى، كما يقال : ما قامت امرأة وما حضرت جارية.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٩٢
المسألة الثانية : قوله :﴿مَا يَكُونُ﴾ من كان التامة، أي ما يوجد ولا يحصل من نجوى ثلاثة.
المسألة الثالثة : النجوى التناجي وهو مصدر، ومنه قوله تعالى :﴿لا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاـاهُمْ﴾ (النساء : ١١٤) وقال الزجاج : النجوى مشتق من النجوة، وهي ما ارتفع ونجا، فالكلام المذكور سراً لما خلا عن استماع الغير صار كالأرض المرتفعة، فإنها لارتفاعها خلت عن اتصال الغير، ويجوز أيضاً أن تجعل النجوى وصفاً، فيقال : قوم نجوى، وقوله تعالى :﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ﴾ (الإسراء : ٤٧) والمعنى، هم ذوو نجوى، فحذف المضاف، وكذلك كل مصدر وصف به.


الصفحة التالية
Icon