المسألة الأولى : قال المفسرون : إنه صح أن أولئك الأقوام كانوا يتناجون فيما بينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم، فيحزنون لذلك، فلما أكثروا ذلك شكا المسلمون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقوله :﴿وَيَتَنَـاجَوْنَ بِالاثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ يحتمل وجهين أحدهما : أن الإثم والعدوان هو مخالفتهم للرسل في النهي عن النجوى لأن الإقدام على المنهي يوجب الإثم والعدوان، سيما إذا كان ذلك الإقدام لأجل المناصبة وإظهار التمرد. والثاني : أن الإثم والعدوان هو ذلك السر الذي كان يجري بينهم، لأنه إما مكر وكيد بالمسلمين أو شيء يسوءهم.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٩٣
المسألة الثانية : قرأ حمزة وحده، (ويتنجون) بغير ألف، والباقون : ، قال أبو علي : ينتجون يفتعلون من النجوى، والنجوى مصدر كالدعوى والعدوى، فينتجون ويتناجون واحد، فإن يفتعلون، ويتفاعلون، قد يجريان مجرى واحد، كما يقال : ازدوجوا، واعتوروا، وتزاوجوا وتعاوروا، وقوله تعالى :﴿أُخْتَهَا حَتَّى ا إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا﴾ (الأعراف : ٣٨) وادركوا فادركوا افتعلوا، وادركوا تفاعلوا وحجة من قرأ : ، قوله :﴿ءَامَنُوا إِذَا نَـاجَيْتُمُ الرَّسُولَ﴾ (المجادلة : ١٢) ﴿وَتَنَـاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ (المجادلة : ٩) فهذا مطاوع ناجيتم، وليس في هذا رد لقراءة حمزة : ينتجون، لأن هذا مثله في الجواز، وقوله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ﴾ قال صاحب الكشاف : قرىء (ومعصيات الرسول)، والقولان ههنا كما ذكرناه في الإثم والعدوان وقوله :﴿وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ﴾ يعني أنهم يقولون في تحيتك : السام عليك يا محمد والسام الموت، والله تعالى يقول :﴿وَسَلَـامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ا ﴾ (النمل : ٥٩) و﴿اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ و﴿مُّنتَظِرُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ﴾ ثم ذكر تعالى أنهم ﴿وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ﴾ يعني أنهم / يقولون في أنفسهم : إنه لو كان رسولاً فلم لا يعذبنا الله بهذا الاستخفاف.
ثم قال تعالى :﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ والمعنى أن تقدم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة، أو بحسب المصلحة، فإذا لم يقتض المشيئة تقديم العذاب، ولم يقتض الصلاح أيضاً ذلك، فالعذاب في القيامة كافيهم في الردع عما هم عليه.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٩٣
٤٩٥
قوله تعالى :﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَنَـاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَـاجَوْا بِالاثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَـاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾.
اعلم أن المخاطبين بقوله :﴿ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ قولين، وذلك لأنا إن حملنا قوله فيما تقدم :﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ﴾ (المجادلة : ٨) على اليهود حملنا في هذه الآية قوله :﴿ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ على المنافقين، أي يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم، وإن حملنا ذلك على جميع الكفار من اليهود والمنافقين، حملنا هذا على المؤمنين، وذلك لأنه تعالى لما ذم اليهود والمنافقين على التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، أتبعه بأن نهى أصحابه المؤمنين أن يسلكوا مثل طريقتهم، فقال :﴿فَلا تَتَنَـاجَوْا بِالاثْمِ﴾ وهو ما يقبح مما يخصهم ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ وهو يؤدي إلى ظلم الغير ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ وهو ما يكون خلافاً عليه، وأمرهم أن يتناجوا بالبر الذي يضاد العدوان وبالتقوى وهو ما يتقي به من النار من فعل الطاعات وترك المعاصي، واعلم أن القوم متى تناجوا بما هذه صفته قلت : مناجاتهم، لأن ما يدعو إلى مثل هذا الكلام يدعو إظهاره، وذلك يقرب من قوله :﴿لا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاـاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـاحا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ (النساء : ١١٤) وأيضاً فمتى عرفت طريقة الرجل في هذه المناجاة لم يتأذ من مناجاته أحد.
ثم قال تعالى :﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي إلى حيث يحاسب ويجازي وإلا فالمكان لا يجوز على الله تعالى.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٩٥
٤٩٦


الصفحة التالية
Icon