المسألة الثالثة : روي عن علي عليه السلام أنه قال : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم، فكلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قدمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد، وروي عن ابن جريج والكلبي وعطاء عن ابن عباس : أنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجه أحد إلا / علي عليه السلام تصدق بدينار، ثم نزلت الرخصة. قال القاضي والأكثر في الروايات : أنه عليه السلام تفرد بالتصدق قبل مناجاته/ ثم ورد النسخ، وإن كان قد روي أيضاً أن أفاضل الصحابة وجدوا الوقت وما فعلوا ذلك، وإن ثبت أنه اختص بذلك فلأن الوقت لم يتسع لهذا الغرض، وإلا فلا شبهة أن أكابر الصحابة لا يقعدون عن مثله، وأقول على تقدير أن أفاضل الصحابة وجدوا الوقت وما فعلوا ذلك، فهذا لا يجر إليهم طعناً، وذلك الإقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير، فإنه لا يقدر على مثله فيضيق قلبه، ويوحش قلب الغني فإنه لما لم يفعل الغني ذلك وفعله غيره صار ذلك الفعل سبباً للطعن فيمن لم يفعل، فهذا الفعل لما كان سبباً لحزن الفقراء ووحشة الأغنياء، لم يكن في تركه كبير مضرة، لأن الذي يكون سبباً للألفة أولى مما يكون سبباً للوحشة، وأيضاً فهذه المناجاة ليست من الواجبات ولا من الطاعات المندوبة، بل قد بينا أنهم إنما كلفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة، ولما كان الأولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة لم يكن تركها سبباً للطعن.
المسألة الرابعة : روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال : لما نزلت الآية دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال :"ما تقول في دينار ؟
قلت : لا يطيقونه، قال : كم ؟
قلت : حبة أو شعيرة، قال : إنك لزهيد" والمعنى إنك قليل المال فقدرت على حسب حالك.
أما قوله تعالى :﴿ذَالِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ﴾ أي ذلك التقديم في دينكم وأطهر لأن الصدقة طهرة.
أما قوله :﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فالمراد منه الفقراء، وهذا يدل على أن من لم يجد ما يتصدق به كان معفواً عنه.
المسألة الخامسة : أنكر أبو مسلم وقوع النسخ وقال : إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات، وإن قوماً من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقياً، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيماناً حقيقياً عمن بقي على نفاقه الأصلي، وإذا كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت، لا جرم يقدر هذا التكليف بذلك الوقت، وحاصل قول أبي مسلم : أن ذلك التكليف كان مقدراً بغاية مخصوصة، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة، فلا يكون هذا نسخاً، وهذا الكلام حسن ما به بأس، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله : ومنهم من قال : إنه منسوخ بوجوب الزكاة.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٩٧
٤٩٧
والمعنى أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من إنفاق المال، فإذ لم تفعلوا ما أمرتم به وتاب الله عليكم ورخص لكم في أن لا تفعلوه، فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات. فإن قيل : ظاهر الآية يدل على تقصير المؤمنين في ذلك التكليف، وبيانه من وجوه أولها : قوله :﴿أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ﴾ وهو يدل على تقصيرهم وثانيها : قوله :﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ﴾ وثالثها : قوله :﴿وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ قلنا : ليس الأمر كما قلتم، وذلك لأن القوم لما كلفوا بأن يقدموا الصدقة ويشغلوا بالمناجاة، فلا بد من تقديم الصدقة، فمن ترك المناجاة يكون مقصراً، وأما لو قيل بأنهم ناجوا من غير تقديم الصدقة، فهذا أيضاً غير جائز، لأن المناجاة لا تمكن إلا إذا مكن الرسول من المناجاة، فإذا لم يمكنهم من ذلك لم يقدروا على المناجاة، فعلمنا أن الآية لا تدل على صدور التقصير منهم، فأما قوله : فلا يمتنع أن الله تعالى علم ضيق صدر كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب، فقال هذا القول، وأما قوله :﴿وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ فليس في الآية أنه تاب عليكم من هذا التقصير، بل يحتمل أنكم إذا كنتم تائبين راجعين إلى الله، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، فقد كفاكم هذا التكليف، أما قوله :﴿وَاللَّهُ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ يعني محيط بأعمالكم ونياتكم.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٩٧
٤٩٨
كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله :﴿مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ وينقلون إليهم أسرار المؤمنين :﴿مَّا هُم مِّنكُمْ﴾ أيها المسلمون ولا من اليهود ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ﴾ والمراد من هذا الكذب إما ادعاؤهم كونهم مسلمين، وإما أنهم كانوا يشتمون الله ورسوله ويكيدون المسلمين فإذا قيل لهم : إنكم فعلتم ذلك خافوا على أنفسهم من القتل، فيحلفون أنا ما قلنا ذلك وما فعلناه، فهذا هو الكذب الذي يحلفون عليه.


الصفحة التالية
Icon