واعلم أن هذه الآية تدل على فساد قول الجاحظ إن الخبر الذي يكون مخالفاً للمخبر عنه إنما يكون كذباً لو علم المخبر كون الخبر مخالفاً للمخبر عنه، وذلك لأن لو كان الأمر على ما ذهب إليه لكان قوله :﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ تكراراً غير مقيد، يروى أن عبد الله بن نبتل المنافق كان / يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حجرته إذ قال : يدخل عليكم رجل ينظر بعين شيطان ـ أو بعيني شيطان ـ فدخل رجل عيناه زرقاوان فقال له : لم تسبني فجعل يحلف فنزل قوله :﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٩٨
٤٩٨
والمراد منه عند بعض المحققين عذاب القبر.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٩٨
٤٩٨
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ الحسن :﴿اتَّخَذْوا أَيْمَـانَهُمْ﴾ بكسر الهمزة، قال ابن جني : هذا على حذف المضاف، أي اتخذوا ظهار إيمانهم جنة عن ظهور نفاقهم وكيدهم للمسلمين، أو جنة عن أن يقتلهم المسلمون، فلما أمنوا من القتل اشتغلوا بصد الناس عن الدخول في الإسلام بإلقاء الشبهات في القلوب وتقبيح حال الإسلام.
المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ أي عذاب الآخر، وإنما حملنا قوله :﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ﴾ على عذاب القبر، وقوله ههنا :﴿فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ على عذاب الآخر، لئلا يلزم التكرار، ومن الناس من قال : المراد من الكل عذاب الآخرة، وهو كقوله :﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَـاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ (النحل : ٨٨).
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٩٨
٤٩٨
روي أن واحداً منهم قال : لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا، فنزلت هذه الآية.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٩٨
٤٩٩
قال ابن عباس : إن المنافق يحلف لله يوم القيامة كذباً كما يحلف لأوليائه في الدنيا كذباً أما الأول : فكقوله :﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام : ٢٣). وأما الثاني : فهو كقوله :﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ﴾ (البقرة : ٥٦) والمعنى أنهم لشدة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنه يمكنهم ترويج / كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب، فكان هذا الحلف الذميم يبقى معهم أبداً، وإليه الإشارة بقوله :﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ (الأنعام : ٢٨) قال الجبائي والقاضي : إن أهل الآخرة لا يكذبون، فالمراد من الآية أنهم يحلفون في الآخرة أنا ما كنا كافرين عند أنفسنا، وعلى هذا الوجه لا يكون هذا الحلف كذباً، وقوله :﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَـاذِبُونَ﴾ أي في الدنيا، واعلم أن تفسير الآية بهذا الوجه لا شك أنه يقتضي ركاكة عظيمة في النظم، وقد استقصينا هذه المسألة في سورة الأنعام في تفسير قوله :﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام : ٢٣).
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٩٩
٥٠١
قال الزجاج : استحوذ في اللغة استولى، يقال : حاوزت الإبل، وحذتها إذا استوليت عليها وجمعتها، قال المبرد : استحوذ على الشيء حواه وأحاط به، وقالت عائشة في حق عمر : كان أحوذياً، أي سائساً ضابطاً للأمور، وهو أحد ما جاء على الأصل نحو : استصوب واستنوق، أي ملكهم الشيطان واستولى عليهم، ثم قال :﴿فَأَنسَـاـاهُمْ ذِكْرَ اللَّه أولئك حِزْبُ الشَّيْطَـانِا أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَـانِ هُمُ الْخَـاسِرُونَ﴾ واحتج القاضي به في خلق الأعمال من وجهين الأول : ذلك النسيان لو حصل بخلق الله لكانت إضافتها إلى الشيطان كذباً والثاني : لو حصل ذلك بخلق الله لكانوا كالمؤمنين في كونهم حزب الله لا حزب الشيطان.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٠١
٥٠١
أي في جملة من هو أذل خلق الله، لأن ذل أحد الخصمين على حسب عز الخصم الثاني، فلما كانت عزة الله غير متناهية، كانت ذلة من ينازعه غير متناهية أيضاً، ولما شرح ذلهم، بين عز المؤمنين فقال :﴿كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر :﴿أَنَا وَرُسُلِى ﴾ بفتح الياء، والباقون لا يحركون، قال أبو علي : التحريك والإسكان جميعاً جائزان.


الصفحة التالية
Icon