وقال الفراء :﴿يُخْرِبُونَ﴾ بالتشديد يهدمون، وبالتخفيف يخربون منها ويتركونها.
المسألة الثانية : ذكر المفسرون في بيان أنهم كيف كانوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين وجوهاً أحدها : أنهم لما أيقنوا بالجلاء، حسدوا المسلمين أن يسكنوا مساكنهم ومنازلهم، فجعلوا يخربونها من داخل، والمسلمون من خارج وثانيها : قال مقاتل : إن المنافقين دسوا إليهم أن لا يخرجوا، ودربوا على الأزقة وحصنوها، فنقضوا بيوتهم وجعلوها كالحصون على أبواب الأزقة، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب وثالثها : أن المسلمين إذا ظهروا على درب من دروبهم خربوه، وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم، وينقبونها من أدبارها ورابعها : أن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد، واليهود لما أيقنوا بالجلاء، وكانوا ينظرون / إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه أو الباب فيهدمون بيوتهم، وينزعونها ويحملونها على الإبل، فإن قيل : ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين ؟
قلنا قال الزجاج : لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٠٥
قوله تعالى :﴿فَاعْتَبِرُوا يَـا أُوْلِى الابْصَـارِ﴾.
اعلم أنا قد تمسكنا بهذه الآية في كتاب "المحصول من أصول الفقه" على أن القياس حجة فلا نذكره ههنا، إلا أنه لا بد ههنا من بيان الوجه الذي أمر الله فيه بالاعتبار، وفيه احتمالات أحدها : أنهم اعتمدوا على حصونهم، وعلى قوتهم وشوكتهم، فأباد الله شوكتهم وأزال قوتهم، ثم قال :﴿فَاعْتَبِرُوا يَـا أُوْلِى الابْصَـارِ﴾ ولا تعتمدوا على شيء غير الله، فليس للزاهد أن يتعمد على زهده، فإن زهده لا يكون أكثر من زهد بلعام، وليس للعالم أن يعتمد على علمه، أنظر إلى ابن الراوندي مع كثرة ممارسته كيف صار، بل لا اعتماد لأحد في شيء إلا على فضل الله ورحمته وثانيها : قال القاضي : المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الغدر والكفر والطعن في النبوة، فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر، والكفر في البلاء والجلاء، والمؤمنين أيضاً يعتبرون به فيعدلون عن المعاصي.
فإن قيل : هذا الاعتبار إنما يصح لو قلنا : إنهم غدروا وكفروا فعذبوا، وكان السبب في ذلك العذاب هو الكفر والغدر، إلا أن هذا القول فاسد طرداً وعكساً أما الطرد فلأنه رب شخص غدر وكفر، وما عذب في الدنيا وأما العكس فلأن أمثال هذه المحن، بل أشد منها وقعت للرسول عليه السلام ولأصحابه، ولم يدل ذلك على سوء أديانهم وأفعالهم، وإذا فسدت هذه العلة فقد بطل هذا الاعتبار، وأيضاً فالحكم الثالث في الأصل هو أنهم :﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ﴾ وإذا عللنا ذلك بالكفر والغدر يلزم في كل من غدر وكفر أن يخرب بيته بيده وبأيدي المسلمين، ومعلوم أن هذا لا يصلح، فعلمنا أن هذا الاعتبار غير صحيح والجواب : أن الحكم الثابت في الأصل له ثلاث مراتب أولها : كونه تخريباً للبيت بأيديهم وأيدي المؤمنين وثانيها : وهو أعم من الأول، كونه عذاباً في الدنيا وثالثها : وهو أعم من الثاني، كونه مطلق العذاب، والغدر والكفر إنما يناسبان العذاب من حيث هو عذاب، فأما خصوص كونه تخريباً أو قتلاً في الدنيا أو في الآخرة فذاك عديم الأثر، فيرجع حاصل القياس إلى أن الذين غدروا وكفروا وكذبوا عذبوا من غير اعتبار أن ذلك العذاب كان في الدنيا أو في الآخرة، والغدر والكفر يناسبان العذاب، فعلمنا أن الكفر والغدر هما السببان في العذاب، فأينما حصلا حصل العذاب / من غير بيان أن ذلك العذاب في الدنيا أو في الآخرة، ومتى قررنا القياس والاعتبار على هذا الوجه زالت المطاعن والنقوض وتم القياس على الوجه الصحيح.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٠٥
المسألة الثانية : الاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد، وسمي المعبر معبراً لأن به تحصل المجاوزة، وسمي العلم المخصوص بالتعبير، لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات، لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع، ويقال : السعيد من اعتبر بغيره، لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، ولهذا قال المفسرون : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها، وفي قوله :﴿لَعِبْرَةً لاوْلِى الابْصَـارِ﴾ وجهان الأول : قال ابن عباس : يريد يا أهل اللب والعقل والبصائر والثاني : قال الفراء :﴿لَعِبْرَةً لاوْلِى الابْصَـارِ﴾ يا من عاين تلك الواقعة المذكورة.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٠٥
٥٠٥


الصفحة التالية
Icon