معنى الجلاء في اللغة، الخروج من الوطن والتحول عنه، فإن قيل : أن ﴿لَوْلا﴾ تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره فيلزم من ثبوت الجلاء عدم التعذيب في الدنيا، لكن الجلاء نوع من أنواع التعذيب، فإذاً يلزم من ثبوت الجلاء عدمه وهو محال، قلنا معناه : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا بالقتل كمافعل بإخوانهم بني قريظة، وأما قوله :﴿وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ فهو كلام مبتدأ وغير معطوف على ما قبله، إذ لو كان معطوفاً على ما قبله لزم أن لا يوجد لما بينا، أن (لولا) تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٠٥
٥٠٦
أما قوله تعالى :﴿ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ فهو يقتضي أن علة ذلك التخريب هو مشاقة الله ورسوله، فإن قيل : لو كانت المشاقة علة لهذا التخريب لوجب أن يقال : أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب، ومعلوم أنه ليس كذلك، قلنا : هذا أحد ما يدل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها.
ثم قال :﴿وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ والمقصود منه الزجر.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٠٦
٥٠٧
فيه مسائل :
المسألة الأولى :﴿مِّن لِّينَةٍ﴾ بيان لِـ﴿مَا قَطَعْتُم﴾، ومحل ﴿مَّآ﴾ نصب بقطعتم، كأنه قال : أي شيء قطعتم، وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله :﴿أَوْ تَرَكْتُمُوهَا﴾ لأنه في معنى اللينة.
المسألة الثانية : قال أبو عبيدة : اللينة النخلة ما لم تكن عجوة أو برنية، وأصل لينة لونة، فذهبت الواو لكسرة اللام، وجمعها ألوان، وهي النخل كله سوى البرني والعجوة، وقال بعضهم : اللينة النخلة الكريمة، كأنهم اشتقوها من اللين وجمعها لين، فإن قيل : لم خصت اللينة بالقطع ؟
قلنا : إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية، وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشد.
المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف : قرىء (قوماً على أصلها)، وفيه وجهان أحدهما : أنه جمع أصل كرهن ورهن، واكتفى فيه بالضمة عن الواو، وقرىء (قائماً على أصوله)، ذهاباً إلى لفظ ما، وقوله :﴿فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي قطعها بإذن الله وبأمره ﴿وَلِيُخْزِىَ الْفَـاسِقِينَ﴾ أي ولأجل إخزاء الفاسقين، أي اليهود أذن الله في قطعها.
المسألة الرابعة : روي أنه عليه الصلاة والسلام حين أمر أن يقطع نخلهم ويحرق، قالوا : يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها ؟
وكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء، فنزلت هذه الآية، والمعنى أن الله إنما أذن في ذلك حتى يزداد غيظ الكفار، وتتضاعف حسرتهم بسبب نفاذ حكم أعدائهم في أعز أموالهم.
المسألة الخامسة : احتج العلماء بهذه الآية على أن حصون الكفرة وديارهم لا بأس أن تهدم وتحرق وتغرق وترمى بالمجانيق، وكذلك أشجارهم لا بأس بقلعها مثمرة كانت أو غير مثمرة، وعن ابن مسعود قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال.
المسألة السادسة : روي أن رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة، والآخر اللون، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال هذا : تركتها لرسول الله، وقال هذا : قطعتها غيظاً للكفار، فاستدلوا به على جواز الاجتهاد، وعلى جوازه بحضرة الرسول.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٠٧
٥٠٨
قال المبرد : يقال فاء يفيء إذا رجع، وأفاءه الله إذا رده، وقال الأزهري : الفيء ما رده الله على أهل دينه، من أموال من خالف أهل دينه بلا قتال، إما بأن يجلوا عن أوطانهم ويخلوها للمسلمين، أو يصالحوا على جزية يؤدونها عن رؤوسهم، أو مال غير الجزية يفتدون به من سفك دمائهم، كما فعله بنو النضير حين صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أن لكل ثلاثة منهم حمل بعير مما شاءوا سوى السلاح، ويتركوا الباقي، فهذا المال هو الفيء، وهو ما أفاء الله على المسلمين، أي رده من الكفار إلى المسلمين، وقوله :﴿مِنْهُمْ﴾ أي من يهود بني النضير، قوله :﴿فَمَآ أَوْجَفْتُمْ﴾ يقال : وجف الفرس والبعير يجف وجفاً ووجيفاً، وهو سرعة السير، وأوجفه صاحبه، إذا حمله على السير السريع، وقوله :﴿عَلَيْهِ﴾ أي على ما أفاء الله، وقوله :﴿مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ﴾ الركاب ما يركب من الإبل، واحدتها راحلة، ولا واحد لها من لفظها، والعرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارساً، ومعنى الآية أن الصحابة طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم، فذكر الله الفرق بين الأمرين، وهو أن الغنيمة ما أتعبتم أنفسكم في تحصيلها وأوجفتم عليها الخيل والركاب بخلاف الفيء فإنكم ما تحملتم في تحصيله تعباً، فكان الأمر فيه مفوضاً إلى الرسول يضعه حيث يشاء.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٠٨