واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين لأنهم إما المهاجرون أ الأنصار أو الذين جاءوا من بعدهم، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء كان خارجاً من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥١٠
٥١٠
قال المقاتلان : يعني عبد الله بن أبي، وعبد الله بن نبتل، ورفاعة بن زيد، كانوا من الأنصار، ولكنهم نافقوا يقولون لإخوانهم، وهذه الأخوة تحتمل وجوهاً أحدها : الأخوة في الكفر لأن اليهود والمنافقين كانوا مشتركين في عموم الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلّم وثانيها : الأخوة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة وثالثها : الأخوة بسبب ما بينهما من المشاركة في عداوة محمد صلى الله عليه وسلّم، ثم أخبر / تعالى عنهم أنهم قالوا لليهود :﴿ لئن أُخْرِجْتُمْ﴾ من المدينة ﴿لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ﴾ أي في خذلانكم ﴿أَحَدًا أَبَدًا﴾ ووعدوهم النصر أيضاً بقولهم :﴿وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ﴾ ثم إنه تعالى شهد على كونهم كاذبين في هذا القول فقال :﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ﴾.
ولما شهد على كذبهم على سبيل الإجمال أتبعه بالتفصيل فقال :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥١٠
٥١٠
واعلم أنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها، فعلم الموجودات في الأزمنة الثلاثة، والمعدومات في الأزمنة الثلاثة، وعلم في كل واحد من هذه الوجوه الستة، أنه لو كان على خلاف ما وقع كيف كان يكون على ذلك التقدير، فههنا أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا فهؤلاء المنافقون لا يخرجون معهم، وقد كان الأمر كذلك، لأن بني النضير لما أخرجوا لم يخرج معهم المنافقين، وقوتلوا أيضاً فما نصروهم، فأما قوله تعالى :﴿وَلَـاـاِن نَّصَرُوهُمْ﴾ فتقديره كما يقول المعترض الطاعن في كلام الغير : لا نسلم أن الأمر كما تقول، ولئن سلمنا أن الأمر كما تقول، لكنه لا يفيد لك فائدة، فكذا ههنا ذكر تعالى أنهم لا ينصرونهم، وبتقدير أن ينصروا إلا أنهم لا بد وأن يتركوا تلك النصرة وينهزموا، ويتركوا أولئك المنصورين في أيدي الأعداء، ونظير هذه الآية قوله :﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾، فأما قوله :﴿ثُمَّ لا يُنصَرُونَ﴾ ففيه وجهان : الأول : أنه راجع إلى المنافقين يعني لينهز من المنافقون :﴿ثُمَّ لا يُنصَرُونَ﴾ بعد ذلك أي يهلكهم الله، ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم والثاني : لينهزمن اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين.
ثم ذكر تعالى أن خوف المنافقين من المؤمنين أشد من خوفهم من الله تعالى فقال :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥١٠
٥١١
أي لا يعلمون عظمة الله حتى يخشوه حق خشيته.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥١١
٥١١
ثم قال تعالى :﴿لا يُقَـاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرا ﴾ يريد أن هؤلاء اليهود والمنافقين لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين إلا إذا كانوا في قرى محصنة بالخنادق والدروب / أو من وراء جدر، وذلك بسبب أن الله ألقى في قلوبهم الرعب، وأن تأييد الله ونصرته معكم، وقرىء ﴿جُدُرا ﴾ بالتخفيف وجدار وجدر وجدر وهما الجدار.
ثم قال تعالى :﴿بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌا تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ا ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ﴾ وفيه ثلاثة أوجه أحدها : يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما يكون إذا كان بعضهم مع بعض، فأما إذا قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة، لأن الشجاع يجبن والعز يذل عند محاربة الله ورسوله وثانيها : قال مجاهد : المعنى أنهم إذا اجتمعوا يقولون : لنفعلن كذا وكذا، فهم يهددون المؤمنين ببأس شديد من وراء الحيطان والحصون، ثم يحترزون عن الخروج للقتال فبأسهم فيما بينهم شديد، لا فيما بينهم وبين المؤمنين وثالثها : قال ابن عباس : معناه بعضهم عدو للبعض، والدليل على صحة هذا التأويل قوله تعالى :﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ يعني تحسبهم في صورتهم مجتمعين على الألفة والمحبة، أما قلوبهم فشتى، لأن كل أحد منهم على مذهب آخر، وبينهم عداوة شديدة، وهذا تشجيع للمؤمنين على قتالهم، وقوله :﴿ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ﴾ فيه وجهان : الأول : أن ذلك بسبب أنهم قوم لا يعقلون ما فيه الحظ لهم والثاني : لا يعقلون أن تشيت القلوب مما يوهن قواهم.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥١١
٥١١


الصفحة التالية
Icon