أي مثلهم كمثل أهل بدر في زمان قريب فإن قيل : بم انتصب ﴿قَرِيبًا ﴾، قلنا : بمثل، والتقدير كوجود مثل أهل بدر. ﴿قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ أي سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله من قولهم : كلأ وبيل أي وخيم سيىء العاقبة يعني ذاقوا عذاب القتل في الدنيا ﴿وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾. ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلاً فقال :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥١١
٥١١
أي مثل المنافقين الذين غروا بني النضير بقولهم :﴿ لئن أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ﴾ (الحشر : ١١) ثم خذلوهم وما وفوا بعهدهم :﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَـانِ إِذْ قَالَ لِلانسَـانِ اكْفُرْ﴾ / ثم تبرأ منه في العاقبة، والمراد إما عموم دعوة الشيطان إلى الكفر، وإما إغواء الشيطان قريشاً يوم بدر بقوله :﴿لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُم فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِى ءٌ مِّنكُمْ﴾ (الأنفال : ٤٨). ثم قال :
(١٧)
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥١١
٥١٢
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال مقاتل : فكان عاقبة المنافقين واليهود مثل عاقبة الشيطان والإنسان حيث صارا إلى النار.
المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : قرأ ابن مسعود (خالدان فيها)، على أنه خبران، و(في النار) لغو، وعلى القراءة المشهورة الخبر هو الظرف ﴿وَأَنزَلْنَا فِيهَآ﴾ حال، وقرىء :﴿عَـاقِبَتَهُمَآ﴾ بالرفع، ثم قال :﴿وَذَالِكَ جَزَا ؤُا الظَّـالِمِينَ﴾ أي المشركين، لقوله تعالى :﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان : ١٣).
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥١٢
٥١٢
ثم إنه تعالى رجع إلى موعظة المؤمنين فقال :﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾. الغد : يوم القيامة سماه باليوم الذي يلي يومك تقريباً له، ثم ذكر النفس والغد على سبيل التنكير. أما الفائدة في تنكير النفس فاستقلال الأنفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة كأنه قال : فلتنظر نفس واحدة في ذلك، وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره كأنه قيل : الغد لا يعرف كنهه لعظمه.
ثم قال :﴿وَاتَّقُوا الله إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ كرر الأمر بالتقوى تأكيداً أو يحمل الأول : على أداء الواجبات والثاني : على ترك المعاصي.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥١٢
٥١٢
ثم قال تعالى :﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَـاـاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾ وفيه وجهان : الأول : قال المقاتلان : نسوا حق الله فجعلهم ناسين حق أنفسهم حتى لم يسعوا لها بما ينفعهم عنده الثاني :﴿فَأَنسَـاـاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾ أي أراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم، كقوله :﴿لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُم وَأَفْـاِدَتُهُمْ﴾ (إبراهيم : ٤٣) ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَـارَى وَمَا هُم بِسُكَـارَى ﴾ (الحج : ٢).
ثم قال :﴿ أولئك هُمُ الْفَـاسِقُونَ﴾ والمقصود منه الذم، واعلم أنه تعالى لما أرشد المؤمنين إلى ما هو مصلحتهم يوم القيامة بقوله :﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ (الحشر : ١٨) وهدد الكافرين بقوله :﴿كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَـاـاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾ بين الفرق بين الفريقين فقال :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥١٢
٥١٢
واعلم أن التفاوت بين هذين الفريقين معلوم بالضرورة، فذكر هذا الفرق في مثل هذا الموضع يكون الغرض منه التنبيه على عظم ذلك الفرق، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المعتزلة احتجوا على أن صاحب الكبيرة لا يدخل الجنة، لأن الآية دلت على أن أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يستويان، فلو دخل صاحب الكبيرة في الجنة لكان أصحاب النار وأصحاب الجنة يستويان، وهو غير جائز، وجوابه معلوم.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي، وقد بينا وجهه في الخلافيات.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥١٢
٥١٤
ثم إنه تعالى لما شرح هذه البيانات عظم أمر القرآن فقال :
﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَه خَـاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه ﴾ والمعنى أنه لو جعل في الجبل عقل كما جعل فيكم، ثم أنزل عليه القرآن لخشع وخضع وتشقق من خشية الله.
ثم قال :﴿وَتِلْكَ الامْثَـالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي الغرض من ذكر هذا الكلام التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار، وغلظ طباعهم، ونظير قوله :﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنا بَعْدِ ذَالِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ (البقرة : ٧٤) واعلم أنه لما وصف القرآن بالعظم، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف، أتبع ذلك بشرح عظمة الله فقال :


الصفحة التالية
Icon