ثم قال تعالى :﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَآءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُم أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِى سَبِيلِى﴾.
﴿وَقَدْ كَفَرُوا ﴾ الواو للحال، أي وحالهم أنهم كفروا :﴿بِمَا جَآءَكُم مِّنَ﴾ الدين ﴿الْحَقِّ﴾، وقيل : من القرآن ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ﴾ يعني من مكة إلى المدينة ﴿أَن تُؤْمِنُوا ﴾ أي لأن تؤمنوا ﴿بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾ وقوله :﴿إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ﴾ قال الزجاج : هو شرط جوابه متقدم وهو : لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، وقوله :﴿جِهَادًا فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِى ﴾ منصوبان لأنهما مفعولان لهما، ﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ﴾ عن مقاتل بالنصيحة، ثم ذكر أنه لا يخفى عليه من أحوالهم شيء، فقال :﴿وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ﴾ من المودة للكفار ﴿وَمَآ أَعْلَنتُمْ ﴾ أي أظهرتم، ولا يبعد أن يكون هذا عاماً في كل ما يخفى ويعلن/ قال بعضهم : هو أعلم بسرائر العبد وخفاياه وظاهره وباطنه، من أفعاله وأحواله، وقوله :﴿وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ﴾ يجوز أن تكون الكناية راجعة إلى الإسرار، وإلى الإلقاء، وإلى اتخاذ الكفار أولياء، لما أن هذه الأفعال مذكورة من قبل، وقوله تعالى :﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ﴾ فيه وجهان : الأول : عن ابن عباس : أنه عدل عن قصد الإيمان في اعتقاده، وعن مقاتل : قد أخطأ قصد الطريق عن الهدى، ثم في الآية مباحث :
الأول :﴿إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ﴾ متعلق بلا تتخذوا، يعني لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي، استئناف، معناه : أي طائل لكم في إسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي.
الثاني : لقائل أن يقول :﴿رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ﴾ الآية، قضية شرطية، ولو كان كذلك فلا يمكن وجود الشرط، وهو قوله :﴿إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ﴾ بدون ذلك النهي، ومن المعلوم أنه يمكن، فنقول : هذا المجموع شرط لمقتضى ذلك النهي، لا للنهي بصريح اللفظ، ولا يمكن وجود المجموع بدون ذلك لأن ذلك موجود دائماً، فالفائدة في ابتغاء مرضاتي ظاهرة، إذ الخروج قد يكون ابتغاء لمرضاة الله وقد لا يكون.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥١٩
الثالث : قال تعالى :﴿بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ ﴾ ولم يقل : بما أسررتم وما أعلنتم، مع أنه أليق بما سبق وهو ﴿تُسِرُّونَ﴾، فنقول فيه من المبالغة ما ليس في ذلك، فإن الإخفاء أبلغ من الإسرار، دل عليه قوله :﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ (طه : ٧) أي أخفى من السر.
الرابع : قال :﴿بِمَآ أَخْفَيْتُمْ﴾ قدم العلم بالإخفاء على الإعلان، مع أن ذلك مستلزم لهذا من غير عكس. هذا بالنسبة إلى علمنا، لا بالنسبة إلى علمه تعالى، إذ هما سيان في علمه كما مر، ولأن المقصود هو بيان ما هو الأخفى وهو الكفر، فيكون مقدماً.
الخامس : قال تعالى :﴿وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ﴾ ما الفائدة في قوله :﴿مِنكُمْ﴾ ومن المعلوم أن من فعل هذا الفعل ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ﴾ نقول : إذا كان المراد من ﴿مِنكُمْ﴾ من المؤمنين فظاهر، لأن من يفعل ذلك الفعل لا يلزم أن يكون مؤمناً.
ثم إنه أخبر المؤمنين بعداوة كفار أهل مكة فقال :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥١٩
٥٢٠
﴿يَثْقَفُوكُمْ﴾ يظفروا بكم ويتمكنوا منكم ﴿يَكُونُوا لَكُمْ﴾ في غاية العداوة، وهو قول ابن عباس، وقال مقاتل : يظهروا عليكم يصادقوكم ﴿وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ بالضرب ﴿وَأَلْسِنَتَهُم﴾ بالشتم ﴿وَوَدُّوا ﴾ أن ترجعوا إلى دينهم، والمعنى أن أعداء الله لا يخلصون المودة لأولياء الله لما بينهم من المباينة ﴿لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ﴾ لما عوتب حاطب على ما فعل اعتذر بأن له أرحاماً، وهي القرابات، والأولاد فيما بينهم، وليس له هناك من يمنع عشيرته، فأراد أن يتخذ عندهم يداً ليحسنوا إلى من خلفهم بمكة من عشيرته، فقال :﴿لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلَـادُكُمْ ﴾ الذين توالون الكفار من أجلهم، وتتقربون إليهم مخافة عليهم، ثم قال :﴿يَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ﴾ وبين أقاربكم وأولادكم فيدخل أهل الإيمان الجنة، وأهل الكفر النار ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي بما عمل حاطب، ثم في الآية مباحث :
الأول : ما قاله صاحب الكشاف :﴿إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَآءً﴾ كيف يورد جواب الشرط مضارعاً مثله، ثم قال :﴿وَوَدُّوا ﴾ بلفظ الماضي نقول : الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب فإن فيه نكتة، كأنه قيل : وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم.
الثاني :﴿يَوْمَ الْقِيَـامَةِ﴾ ظرف لاي شيء، قلنا لقوله :﴿لَن تَنفَعَكُمْ﴾ أو يكون ظرفاً ليفصل وقرأ ابن كثير :﴿يَفْصِلُ﴾ بضم الياء وفتح الصاد، و﴿يَفْصِلُ﴾ على البناء للفاعل وهو الله، و(نفصل) و(نفصل) بالنون.