جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٣٢
وقوله تعالى :﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ﴾ أي اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين، وقوله :﴿بِالْهُدَى ﴾ لمن اتبعه ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾ قيل : الحق هو الله تعالى، أي دين الله : وقيل : نعت للدين، أي والدين هو الحق، وقيل : الذي يحق أن يتبعه كل أحد و﴿لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه ﴾ يريد الإسلام، وقيل : ليظهره، أي الرسول صلى الله عليه وسلّم بالغلبة وذلك بالحجة، وههنا مباحث :
الأول :﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِه ﴾ والتمام لا يكون إلا عند النقصان، فكيف نقصان هذا النور ؟
فنقول إتمامه بحسب النقصان في الأثر، وهو الظهور في سائر البلاد من المشارق إلى المغارب، إذ الظهور لا يظهر إلا بالإظهار وهو الإتمام، يؤيده قوله تعالى :﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ (المائدة : ٣) وعن أبي هريرة : أن ذلك عند نزول عيسى من السماء، قال مجاهد.
الثاني : قال ههنا :﴿مُتِمُّ نُورِه ﴾ (النور : ٣٥) وقال في موضع آخر :﴿مَثَلُ نُورِه ﴾ وهذا عين ذلك أو غيره ؟
نقول : هو غيره، لأن نور الله في ذلك الموضع هو الله تعالى عند أهل التحقيق، وهنا هو الدين أو الكتاب أو الرسول.
الثالث : قال في الآية المتقدمة :﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ﴾ وقال في المتأخرة :﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ فما الحكمة فيه ؟
فنقول : إنهم أنكروا الرسول، وما أنزل إليه وهو الكتاب، وذلك من نعم الله، والكافرون كلهم في كفران النعم، فلهذا قال :﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ﴾ ولأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك، والمراد من الكافرين ههنا اليهود والنصارى والمشركون، وهنا ذكر النور وإطفاءه، واللائق به الكفر لأنه الستر والتغطية، لأن من يحاول الإطفاء إنما يريد الزوال، وفي الآية الثانية ذكر الرسول والإرسال ودين الحق، وذلك منزلة عظيمة للرسول عليه السلام، وهي اعتراض على الله تعالى كما قال :
ألا قل لمن ظل لي حاسدا
أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فعله
كأنه لم ترض لي ما وهب
والاعتراض قريب من الشرك، ولأن الحاسدين للرسول عليه السلام، كان أكثرهم من قريش وهم المشركون، ولما كان النور أعم من الدين والرسول، لا جرم قابله بالكافرين الذين هم جميع مخالفي الإسلام والإرسال، والرسول والدين أخص من النور قابله بالمشركين الذين هم أخص من الكافرين.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٣٢
٥٣٧
اعلم أن قوله تعالى :﴿هَلْ أَدُلُّكمْ﴾ في معنى الأمر عند الفراء، يقال : هل أنت ساكت أي اسكت وبيانه : أن هل، بمعنى الاستفهام، ثم يتدرج إلى أن يصير عرضاً وحثاً، والحث كالإغراء، والإغراء أمر، وقوله تعالى :﴿عَلَى تِجَـارَةٍ﴾ هي التجارة بين أهل الإيمان وحضرة الله تعالى، كما قال تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ (التوبة : ١١١) دل عليه ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِه ﴾ والتجارة عبارة عن معاوضة الشيء بالشيء، وكما أن التجارة تنجي التاجر من محنة الفقر، ورحمة الصير على ما هو من لوازمه، فكذلك هذه التجارة وهي التصديق بالجنان والإقرار باللسان، كما قيل في تعريف الإيمان فلهذا قال : بلفظ التجارة، وكما أن التجارة في الربح والخسران، فكذلك في هذا، فإن من آمن وعمل صالحاً فله الأجر، والربح الوافر، واليسار المبين، ومن أعرض عن العمل الصالح فله التحسر والخسران المبين، وقوله تعالى :﴿تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ قرىء مخففاً ومثقلاً، ﴿وَتُؤْمِنُونَ﴾ استئناف، كأنهم قالوا : كيف نعمل ؟
فقال :﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِه ﴾ وهو خبر في معنى الأمر، ولهذا أجيب بقوله :﴿يَغْفِرْ لَكُمْ﴾ وقوله تعالى :﴿وَتُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ﴾ والجهاد بعد هذين الوجهين ثلاثة، جهاد فيما بينه وبين نفسه، وهو قهر النفس، ومنعها عن اللذات والشهوات، وجهاد فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يدع الطمع منهم، ويشفق عليهم ويرحمهم وجهاد فيما بينه بين الدنيا وهو أن يتخذها زاداً المادة فتكون على خمسة أوجه، وقوله تعالى :﴿ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ يعني الذي أمرتم به من الإيمان بالله تعالى والجهاد في سبيله خير لكم من أن تتبعوا أهواءكم ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ / أي أن كنتم تنتفعون بما عملتم فهو خير لكم، وفي الآية مباحث :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٣٧
الأول : لم قال :﴿تُؤْمِنُونَ﴾ بلفظ الخبر ؟
نقول : للإيذان بوجوب الامتثال، عن ابن عباس قالوا : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملنا، فنزلت هذه الآية، فمكثوا ما شاء الله يقولون : يا ليتنا نعلم ما هي ؟
فدلهم الله عليها بقوله :﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾.


الصفحة التالية
Icon