الثاني : المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم، فما معنى قوله تعالى :﴿ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ﴾ ؟
نقول : قال في "الكشاف" ثلاثة أوجه أحدها :﴿ءَامَنُواّ﴾ نطقوا بكلمة الشهادة، وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ﴿ثُمَّ كَفَرُوا ﴾ ثم ظهر كفرهم بعد ذلك وثانيها :﴿ءَامَنُواّ﴾ نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ﴿ثُمَّ كَفَرُوا ﴾ نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام كقوله تعالى :﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا﴾ وثالثها : أن يراد أهل الذمة منهم.
الثالث : الطبع على القلوب لا يكون إلا من الله تعالى، ولما طبع الله على قلوبهم لا يمكنهم أن يتدبروا ويستدلوا بالدلائل، ولو كان كذلك لكان هذا حجة لهم على الله تعالى، فيقولون : إعراضنا عن الحق لغفلتنا، وغفلتنا بسبب أنه تعالى طبع على قلوبنا، فنقول : هذا الطبع من الله تعالى لسوء أفعالهم، وقصدهم الإعراض عن الحق، فكأنه تعالى تركهم في أنفسهم الجاهلة وأهوائهم الباطلة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٤٩
٥٥١
اعلم أن قوله تعالى :﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ﴾ يعني عبد الله بن أبي، ومغيث بن قيس، وجد بن قيس، كانت لهم أجسام ومنظر، تعجبك أجسامهم لحسنها وجمالها، وكان عبد الله بن أبي جسيماً صبيحاً فصيحاً، وإذا قال : سمع النبي صلى الله عليه وسلّم قوله، وهو قوله تعالى :﴿وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ أي ويقولوا : إنك لرسول الله تسمع لقولهم، وقرىء يسمع على البناء للمفعول، ثم شبههم بالخشب المسندة، وفي الخشب التخفيف كبدنة وبدن وأسد وأسد، والتثقيل كذلك كثمرة وثمر، وخشبة / وخشب، ومدرة ومدر. وهي قراءة ابن عباس، والتثقيل لغة أهل الحجاز، والخشب لا تعقل ولا تفهم، فكذلك أهل النفاق كأنهم في ترك التفهم، والاستبصار بمنزلة الخشب. وأما المسندة يقال : سند إلى شيء، أي مال إليه، وأسنده إلى الشيء، أي أماله فهو مسند، والتشديد للمبالغة، وإنما وصف الخشب بها، لأنها تشبه الأشجار القائمة التي تنمو وتثمر بوجه ما، ثم نسبهم إلى الجبن وعابهم به، فقال :﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِم هُمُ الْعَدُوُّ﴾ وقال مقاتل : إذا نادى مناد في العسكر، وانفلتت دابة، أو نشدت ضالة مثلاً ظنوا أنهم يرادون بذلك لما في قلوبهم من الرعب، وذلك لأنهم على وجل من أن يهتك الله أستارهم، ويكشف أسرارهم، يتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة، ثم أعلم (الله) رسوله بعداوتهم فقال :﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ﴾ أن تأمنهم على السر ولا تلتفت إلى ظاهرهم فإنهم الكاملون في العداوة بالنسبة إلى غيرهم وقوله تعالى :﴿قَـاتَلَهُمُ اللَّه أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ مفسر وهو دعاء عليهم وطلب من ذاته أن يلعنهم ويخزيهم وتعليم للمؤمنين أن يدعوا بذلك، و﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ أي يعدلون عن الحق تعجباً من جهلهم وضلالتهم وظنهم الفاسد أنهم على الحق.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٥١
وقوله تعالى :﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ﴾ قال الكلبي : لما نزل القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلّم بصفة المنافقين مشى إليه عشائرهم من المؤمنين وقالوا : لهم ويلكم افتضحتم بالنفاق وأهلكتم أنفسكم فأتوا رسول الله وتوبوا إليه من النفاق واسألوه أن يستغفر لكم، فأبوا ذلك وزهدوا في الاستغفار فنزلت، وقال ابن عباس لما رجع عبد الله بن أبي من أحد بكثير من الناس مقته المسلمون وعنفوه وأسمعوه المكروه فقال له بنو أبيه : لو أتيت رسول صلى الله عليه وسلّم حتى يستغفر لك ويرضى عنك، فقال : لا أذهب إليه، ولا أريد أن يستغفر لي، وجعل يلوي رأسه فنزلت. وعند الأكثرين، إنما دعى إلى الاستغفار لأنه قال :﴿لَيُخْرِجَنَّ الاعَزُّ مِنْهَا الاذَلَّ ﴾ (المنافقون : ٨) وقال :﴿لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ (المنافقون : ٧) فقيل له : تعال يستغفر لك رسول الله فقال : ماذا قلت : فذلك قوله تعالى :﴿لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ﴾ وقرىء :﴿لَوَّوْا ﴾ بالتخفيف والتشديد للكثرة والكناية قد تجعل جمعاً والمقصود واحد وهو كثير في أشعار العرب قال جرير :
لا بارك الله فيمن كان يحسبكم
إلا على العهد حتى كان ما كانا


الصفحة التالية
Icon