جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٧٤
٥٧٥
﴿قُوا أَنفُسَكُمْ﴾ أي بالانتهاء عما نهاكم الله تعالى عنه، وقال مقاتل : أن يؤدب المسلم نفسه وأهله، فيأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، وقال في "الكشاف" :﴿قُوا أَنفُسَكُمْ﴾ بترك المعاصي وفعل الطاعات، ﴿وَأَهْلِيكُمْ﴾ بأن تؤاخذوهم بما تؤاخذون به أنفسكم، وقيل :﴿قُوا أَنفُسَكُمْ﴾ مما تدعو إليه أنفسكم إذ الأنفس تأمرهم بالشر وقرىء : عطفاً على واو ﴿ءَامَنُوا قُوا ﴾ وحسن العطف للفاصل، و﴿نَارًا﴾ نوعاً من النار لا يتقد إلا بالناس والحجارة، وعن ابن عباس هي حجارة الكبريت، لأنها أشد الأشياء حراً إذا أوقد عليها، وقرىء :﴿وَقُودُهَا﴾ بالضم، وقوله :﴿عَلَيْهَا مَلَـا اـاِكَةٌ﴾ يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم ﴿غِلاظٌ شِدَادٌ﴾ في أجرامهم غلظة وشدة أي جفاء وقوة، أو في أفعالهم جفاء وخشونة، ولا يبعد أن يكونوا بهذه الصفات في خلقهم، أو في أفعالهم بأن يكونوا أشداء على أعداء الله، رحماء على أولياء الله كما قال تعالى :﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾ (الفتح : ٢٩) وقوله تعالى :﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ يدل على اشتدادهم لمكان الأمر، لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله تعالى والانتقام من أعدائه، وفيه إشارة إلى أن الملائكة مكلفون في الآخرة بما أمرهم الله تعالى به وبما ينهاهم عنه والعصيان منهم مخالفة للأمر والنهي.
وقوله تعالى :﴿يُؤْمَرُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ﴾ لما ذكر شدة العذاب بالنار، واشتداد الملائكة في انتقام الأعداء، فقال :﴿لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ﴾ أي يقال لهم : لا تعتذروا اليوم إذ الاعتذار هو التوبة، والتوبة غير مقبولة بعد الدخول في النار، فلا ينفعكم الاعتذار، وقوله تعالى :﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ يعني إنما أعمالكم السيئة ألزمتكم العذاب في الحكمة، وفي الآية مباحث :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٧٥
البحث الأول : أنه تعالى خاطب المشركين في قوله :﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ وقال :﴿أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ﴾ (البقرة : ٢٤) جعلها معدة للكافرين، فما معنى مخاطبته به المؤمنين ؟
نقول : الفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار، فإنهم مع الكفار في دار واحدة فقيل للذين آمنوا :﴿قُوا أَنفُسَكُمْ﴾ باجتناب الفسق مجاورة الذين أعدت لهم هذه النار، ولا يبعد أن يأمرهم بالتوقي من الارتداد.
البحث الثاني : كيف تكون الملائكة غلاظاً شداداً وهم من الأرواح، فنقول : الغلظة والشدة بحسب الصفات لما كانوا من الأرواح لا بحسب الذات، وهذا أقرب بالنسبة إلى الغير من الأقوال.
البحث الثالث : قوله تعالى :﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ﴾ في معنى قوله :﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ فما الفائدة في الذكر فنقول : ليس هذا في معنى ذلك لأن معنى الأول أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا ينكرونها، ومعنى الثاني أنهم (يؤدون) ما يؤمرون به كذا ذكره في "الكشاف".
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٧٥
٥٧٧
قوله :﴿تَوْبَةً نَّصُوحًا﴾ أي توبة بالغة في النصح، وقال الفراء : نصوحاً من صفة التوبة والمعنى توبة تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب منه، وهو أنها الصادقة الناصحة ينصحون بها أنفسهم، وعن عاصم، ﴿نَّصُوحًا﴾ بضم النون، وهو مصدر نحو العقود، يقال : نصحت له نصحاً ونصاحة ونصوحاً، وقال في "الكشاف" : وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي، وهو أن يتوبوا عن القبائح نادمين عليها غاية الندامة لا يعودون، وقيل : من نصاحة الثوب، أي خياطته و﴿عَسَى رَبُّكُمْ﴾ إطماع من الله تعالى لعباده.
وقوله تعالى :﴿يَوْمَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ﴾ نصب بيدخلكم، و﴿لا﴾ تعريض لمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسق واستحماد للمؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم، ثم المعتزلة تعلقوا بقوله تعالى :﴿يَوْمَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ﴾ وقالوا : الإخزاء يقع بالعذاب، فقد وعد بأن لا يعذب الذين آمنوا، ولو كان أصحاب الكبائر من الإيمان لم نخف عليهم العذاب، وأهل السنة أجابوا / عنه بأنه تعالى وعد أهل الإيمان بأن لا يخزيهم، والذين آمنوا ابتداء كلام، وخبره ﴿يَسْعَى ﴾، أو ﴿إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ﴾، ثم من أهل السنة من يقف على قوله :﴿يَوْمَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ﴾ أي لا يخزيه في رد الشفاعة، والإخزاء الفضيحة، أي لا يفضحهم بين يدي الكفار، ويجوز أن يعذبهم على وجه لا يقف عليه الكفرة، وقوله :﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ أي عند المشي ﴿وَبِأَيْمَـانِهِمْ﴾ عند الحساب، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم وفيه نور وخير، ويسعى النور بين أيديهم في موضع وضع الأقدام وبأيمانهم، لأن خلفهم وشمالهم طريق الكفرة.