المسألة الثامنة : احتج أهل التوحيد على أنه تعالى منزه عن الحيز والجهة، فإنه تعالى لو حصل في حيز دون حيز لكان ذلك الحيز الذي حكم بحصوله فيه متميزاً عن الحيز الذي حكم بأنه غير حاصل فيه، إذ لو لم يتميز أحد الحيزين عن الآخر لاستحال الحكم بأنه تعالى حصل فيه ولم يحصل في الآخر ثم إن امتياز أحد الحيزين عن الآخر في نفسه يقتضي كون الحيز أمراً موجوداً لأن العدم المحض يمتنع أن يكون مشاراً إليه بالحس وأن يكون بعضه متميزاً عن البعض في الحس، وأن يكون مقصداً للمتحرك، فإذن لو كان الله تعالى حاصلاً في حيز لكان ذلك الحيز موجوداً، ولو كان ذلك الحيز موجوداً لكان شيئاً ولكان مقدور الله لقوله تعالى :﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ وإذا كان تحقق ذلك الحيز بقدرة الله وبإيجاده، فيلزم أن يكون الله متقدماً في الوجود على تحقق ذلك الحيز، ومتى كان كذلك كان وجود الله في الأزل محققاً من غير حيز وله جهة أصلاً والأزلي لا يزول ألبتة، فثبت أنه تعالى منزه عن الحيز والمكان أزلاً وأبداً.
المسألة التاسعة : أنه تعالى قال أولاً :﴿بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ ثم قال بعده :﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ وهذا مشعر بأنه إنما يكون بيده الملك لو ثبت أنه على كل شيء قدير، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا من أنه لو وقع مراد العبد ولا يقع مراد الله، لكان ذلك مشعراً بالعجز والضعف، وبأن لا يكون مالك الملك على الإطلاق، فدل ذلك، على أنه لما كان مالك الملك وجب أن يكون قادراً على جميع الأشياء.
المسألة العاشرة : القدير مبالغة في القادر، فلما كان قديراً على كل الأشياء وجب أن لا يمنعه ألبتة مانع عن إيجاد شيء من مقدوراته، وهذا يقتضي أن لا يجب لأحد عليه شيء وإلا لكان ذلك الوجوب مانعاً له من الترك وأن لا يقبح منه شيء وإلا لكان ذلك القبح مانعاً له من الفعل، فلا يكون كاملاً في القدرة، فلا يكون قديراً والله أعلم.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٨٢
٥٨٣
قوله تعالى :﴿الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ﴾ فيه مسائل :
المسألة الأولى : قالوا : الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر واختلفوا في الموت، فقال قوم : إنه عبارة عن عدم هذه الصفة وقال أصحابنا : إنه صفة وجودية مضادة للحياة واحتجوا على قولهم بأنه تعالى قال :﴿الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ﴾ والعدم لا يكون مخلوقاً هذا هو التحقيق، وروى الكلبي بإسناده عن ابن عباس أن الله تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء، ولا يجد رائحته شيء إلا مات وخلق الحياة / في صورة فارس يلقاه فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء ولا يجد ريحتها شيء إلا حيي. واعلم أن هذا لا بد وأن يكون مقولاً على سبيل التمثيل والتصوير، وإلا فالتحقيق هو الذي ذكرناه.
المسألة الثانية : إنما قدم ذكر الموت على ذكر الحياة مع أن الحياة مقدمة على الموت لوجوه : أحدها : قال مقاتل : يعني بالموت نطفة وعلقة ومضغة والحياة نفخ الروح وثانيها : روى عطاء عن ابن عباس قال : يريد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة دار الحيوان وثالثها : أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم :"أن منادياً ينادي يوم القيامة يا أهل الجنة، فيعلمون أنه من قبل الله عز وجل فيقولون : لبيك ربنا وسعديك، فيقول : هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا : نعم، ثم يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ويذبح ثم ينادي يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرح، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزن" واعلم أنا بينا أن الموت عرض من الأعراض كالسكون والحركة فلا يجوز أن يصير كبشاً بل المراد منه التمثيل ليعلم أن في ذلك اليوم قد انقضى أمر الموت، فظهر بما ذكرناه أن أيام الموت هي أيام الدنيا وهي منقضية، وأما أيام الآخرة فهي أيام الحياة وهي متأخرة فلما كانت أيام الموت متقدمة على أيام الحياة لا جرم قدم الله ذكر الموت على ذكر الحياة ورابعها إنما قدم الموت على الحياة لأن أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض له أهم.
المسألة الثالثة : اعلم أن الحياة هي الأصل في النعم ولولاها لم يتنعم أحد في الدنيا وهي الأصل أيضاً في نعم الآخرة ولولاها لم يثبت الثواب الدائم، والموت أيضاً نعمة على ما شرحنا الحال فيه في مواضع من هذا الكتاب، وكيف لا وهو الفاصل بين حال التكليف وحال المجازاة وهو نعمة من هذا الوجه، قال عليه الصلاة والسلام :"أكثروا من ذكر هازم اللذات" وقال لقوم :"لو أكثرتم ذكر هازم اللذات لشغلكم عما أرى" وسأل عليه الصلاة والسلام عن رجل فأثنوا عليه، فقال :"كيف ذكره الموت ؟
قالوا قليل، قال فليس كما تقولون".
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٨٣
قوله تعالى :﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ وفيه مسائل :