المسألة الأولى : الابتلاء هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي وذلك في حق من وجب أن يكون عالماً بجميع المعلومات أزلاً وأبداً محال، إلا أنا قد حققنا هذه المسألة في تأويل قوله :﴿وَإِذِ ابْتَلَى ا إِبْرَاه مَ رَبُّه بِكَلِمَـاتٍ﴾ (البقرة : ١٢٤) والحاصل أن الابتلاء من الله هو أن يعامل عبده معاملة تشبه (الابتلاء) على المختبر.
المسألة الثانية : احتج القائلون بأنه تعالى يفعل الفعل لغرض بقوله :﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ قالوا : هذه اللام للغرض ونظيره قوله تعالى :﴿إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات : ٥٦) وجوابه أن الفعل في نفسه ليس بابتلاء إلا أنه / لما أشبه الابتلاء سمي مجازاً، فكذا ههنا، فإنه يشبه الغرض وإن لم يكن في نفسه غرضاً، فذكر فيه حرف الغرض.
المسألة الثالثة : اعلم أنا فسرنا الموت والحياة بالموت حال كونه نطفة وعلقة ومضغة، والحياة بعد ذلك فوجه الابتلاء على هذا الوجه أن يعلم أنه تعالى هو الذي نقله من الموت إلى الحياة وكما فعل ذلك فلا بد وأن يكون قادراً على أن ينقله من الحياة إلى الموت فيحذر مجيء الموت الذي به ينقطع استدراك ما فات ويستوي فيه الفقير والغني والمولى والعبد، وأما إن فسرناهما بالموت في الدنيا وبالحياة في القيامة فالابتلاء فيهما أتم لأن الخوف من الموت في الدنيا حاصل وأشد منه الخوف من تبعات الحياة في القيامة، والمراد من الابتلاء أنه هل ينزجر عن القبائح بسبب هذا الخوف أم لا.
المسألة الرابعة : في تعلق قوله :﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ بقوله :﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ﴾ وجهان : الأول : وهو قول الفراء والزجاج : إن المتعلق بأيكم مضمر والتقدير ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملاً والثاني : قال صاحب "الكشاف" :﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ في معنى ليعلمكم والتقدير ليعلمكم أيكم أحسن عملاً.
المسألة الخامسة : ارتفعت (أي) بالابتداء ولا يعمل فيها ما قبلها لأنها على أصل الاستفهام فإنك إذا قلت : لا أعلم أيكم أفضل كان المعنى لا أعلم أزيد أفضل أم عمرو، واعلم أن مالا يعمل فيما بعد الألف فكذلك لا يعمل في (أي) لأن المعنى واحد، ونظير هذه الآية قوله :﴿سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَالِكَ زَعِيمٌ﴾ (القلم : ٤٠) وقد تقدم الكلام فيه.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٨٣
المسألة السادسة : ذكروا في تفسير ﴿أَحْسَنُ عَمَلا ﴾ وجوهاً : أحدها : أن يكون أخلص الأعمال وأصوبها لأن العمل إذا كان خالصاً غير صواب لم يقبل، وكذلك إذا كان صواباً غير خالص فالخالص أن يكون لوجه الله، والصواب أن يكون على السنة وثانيها : قال قتادة : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال :"يقول أيكم أحسن عقلاً" ثم قال : أتمكم عقلاً أشدكم لله خوفاً وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظراً، وإنما جاز أن يفسر حسن العمل بتمام العقل لأنه يترتب على العقل، فمن كان أتم عقلاً كان أحسن عملاً على ما ذكر في حديث قتادة وثالثها : روي عن الحسن أيكم أزهد في الدنيا وأشد تركاً لها، واعلم أنه لما ذكر حديث الابتلاء قال بعده :﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ أي وهو العزيز الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل، الغفور لمن تاب من أهل الإساءة.
واعلم أن كونه عزيزاً غفوراً لا يتم إلا بعد كونه قادراً على كل المقدورات عالماً بكل المعلومات أما أنه لا بد من القدرة التامة، فلأجل أن يتمكن من إيصال جزاء كل أحد بتمامه إليه سواء كان عقاباً أو ثواباً، وأما أنه لا بد من العلم التام فلأجل أن يعلم أن المطيع من هو والعاصي من هو فلا يقع الخطأ في إيصال الحق إلى مستحقه، فثبت أن كونه عزيزاً غفوراً لا يمكن ثبوتها إلا بعد ثبوت / القدرة التامة والعلم التام، فلهذا السبب ذكر الله الدليل على ثبوت هاتين الصفتين في هذا المقام، ولما كان العلم بكونه تعالى قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً، لا جرم ذكر أولاً دلائل القدرة وثانياً دلائل العلم.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٨٣
٥٨٦
أما دليل القدرة فهو قوله :﴿الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ طِبَاقًا ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكر صاحب "الكشاف" في ﴿طِبَاقًا ﴾ ثلاثة أوجه أولها : طباقاً أي مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا خصفها طبقاً على طبق، وهذا وصف بالمصدر وثانيها : أن يكون التقدير ذات طباق وثالثها : أن يكون التقدير طوبقت طباقاً.
المسألة الثانية : دلالة هذه السموات على القدرة من وجوه أحدها : من حيث إنها بقيت في جو الهواء معلقة بلا عماد ولا سلسلة وثانيها : من حيث إن كل واحد منها اختص بمقدار معين مع جواز ما هو أزيد منه وأنقص وثالثها : أنه اختص كل واحد منها بحركة خاصة مقدرة بقدر معين من السرعة والبطء إلى جهة معينة ورابعها : كونها في ذواتها محدثة وكل ذلك يدل على استنادها إلى قادر تام القدرة.
وأما دليل العلم فهو قوله :﴿مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـن ِ مِن تَفَـاوُتٍا فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon