الصفة الثالثة : قوله :﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ﴾ يقال : فلان يتميز غيظاً، ويتعصف غيظاً وغضب فطارت منه (شعلة في الأرض وشعلة) في السماء إذا وصفوه بالإفراط فيه. وأقول لعل السبب في هذا المجاز أن الغضب حالة تحصل عند غليان دم القلب والدم عند الغليان يصير أعظم حجماً ومقداراً فتتمدد تلك الأوعية عند ازدياد مقادير الرطوبات في البدن، فكلما كان الغضب أشد كان الغليان أشد، فكان الازدياد أكثر، وكان تمدد الأوعية وانشقاقها وتميزها أكثر، فجعل ذكر هذه الملازمة كناية عن شدة الغضب، فإن قيل : النار ليست من الأحياء، فكيف يمكن وصفها بالغيظ قلنا الجواب من وجوه أحدها : أن البنية عندنا ليست شرطاً للحياة فلعل الله يخلق فيها وهي نار حياة وثانيها : أنه شبه صوت لهبها وسرعة تبادرها بصوت الغضبان وحركته وثالثها : يجوز أن يكون المراد غيظ الزبانية.
الصفة الرابعة : قوله تعالى :﴿كُلَّمَآ أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾.
الفوج الجماعة من الناس والأفواج الجماعات في تعرفه، ومنه قوله :﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ (النبأ : ١٨) و﴿خَزَنَتُهَآ﴾ مالك وأعوانه من الزبانية ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ وهو سؤال توبيخ، قال الزجاج : وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب، وفي الآية مسألتان :
المسألة الأولى : احتجت المرجئة على أنه لا يدخل النار أحد إلا الكفار بهذه الآية، قالوا : لأنه تعالى حكى عن كل من ألقي في النار أنهم قالوا : كذبنا النذير، وهذا يقتضي أن من لم يكذب الله ورسوله لا يدخل النار، واعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصر لا يدخل النار، وأجاب القاضي عنه بأن النذير قد يطلق على ما في العقول من الأدلة المحذرة المخوفة، ولا أحد يدخل النار إلا وهو مخالف للدليل غير متمسك بموجبه.
المسألة الثانية : احتج القائلون بأن معرفة الله وشكره لا يجبان إلا بعد ورود السمع بهذه الآية وقالوا : هذه الآية دلت على أنه تعالى إنما عذبهم لأنه أتاهم النذير، وهذا يدل على أنه لو لم يأتهم النذير لما عذبهم.
ثم إنه تعالى حكى عن الكفار جوابهم عن ذلك السؤال من وجهين :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٨٨
٥٨٩
الأول : قوله تعالى :﴿قَالُوا بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ﴾.
واعلم أن قوله :﴿بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا﴾ اعتراف منهم بعدل الله، وإقرار بأن الله أزاح عللهم ببعثة الرسل، ولكنهم كذبوا الرسل وقالوا :﴿مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ﴾.
أما قوله تعالى :﴿إِنْ أَنتُمْ إِلا فِى ضَلَـالٍ كَبِيرٍ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الآية وجهان الوجه الأول : وهو الأظهر أنه من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين الوجه الثاني : يجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار، والتقدير أن الكفار لما قالوا ذلك الكلام قالت الخزنة لهم :﴿إِنْ أَنتُمْ إِلا فِى ضَلَـالٍ كَبِيرٍ﴾.
المسألة الثانية : يحتمل أن يكون المراد من الضلال الكبير ما كانوا عليه من ضلالهم في الدنيا، ويحتمل أن يكون المراد بالضلال الهلاك، ويحتمل أن يكون سمي عقاب الضلال باسمه.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٨٩
٥٨٩
هذا هو الكلام / الثاني مما حكاه الله تعالى عن الكفار جواباً للخزنة حين قالوا :﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ (الملك : ٨) والمعنى لو كنا نسمع الإنذار سماع من كان طالباً للحق أو نعقله عقل من كان متأملاً متفكراً لما كنا من أصحاب السعير، وقيل : إنما جمع بين السمع والعقل، لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة الهدى والإضلال بأن قالوا لفظة لو تفيد امتناع الشيء لامتناع غيره فدلت الآية على أنه ما كان لهم سمع ولا عقل، لكن لا شك أنهم كانوا ذوي أسماع وعقول صحيحة، وأنهم ما كانوا صم الأسماع ولا مجانين، فوجب أن يكون المراد أنه ما كان لهم سمع الهداية ولا عقل الهداية.
المسألة الثانية : احتج بهذه الآية من قال : الدين لا يتم إلا بالتعليم فقال : إنه قدم السمع على العقل تنبيهاً على أنه لا بد أولاً من إرشاد المرشد وهداية الهادي، ثم إنه يترتب عليه فهم المستجيب وتأمله فيما يلقيه المعلم والجواب : أنه إنما قدم السمع لأن المدعو إذا لقي الرسول فأول المراتب أنه يسمع كلامه ثم إنه يتفكر فيه، فلما كان السمع مقدماً بهذا السبب على التعقل والتفهم لا جرم قدم عليه في الذكر.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : ومن بدع التفاسير أن المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي، ثم قال كأن هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين، وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم.


الصفحة التالية
Icon