أي فسترى يا محمد ويرون يعني المشركين، وفيه قولان : منهم من حمل ذلك على أحوال الدنيا، يعني فستبصر ويبصرون الدنيا أنه كيف يكون عاقبة أمرك وعاقبة أمرهم، فإنك تصير معظماً في القلوب، ويصيرون دليلين ملعونين، وتستولي عليهم بالقتل والنهب، قال مقاتل : هذا وعيد بالعذاب ببدر، ومنهم من حمله على أحوال الآخرة وهو كقوله :﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الاشِرُ﴾ (القمر : ٢٦).
[بم وأما قوله تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٠٣
٦٠٣
ففيه وجوه : أحدها : وهو قول الأخفش وأبي عبيدة وابن قتيبة : أن الباء صلة زائدة والمعنى أيكم المفتون وهو الذي فتن بالجنون كقوله :﴿تَنابُتُ بِالدُّهْنِ﴾ (المؤمنين : ٢٠) أي تنبت الدهن وأنشد أبو عبيدة :
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
والفراء طعن في هذا الجواب وقال : إذا أمكن فيه بيان المعنى الصحيح من دون طرح الباء كان ذلك أولى، وأما البيت فمعناه نرجو كشف ما نحن فيه بالفرج أو نرجو النصر بالفرج وثانيها : وهو اختيار الفراء والمبرد أن المفتون ههنا بمعنى الفتون وهو الجنون، والمصادر تجيء على المفعول نحو المعقود والميسور بمعنى العقد واليسر، يقال : ليس له معقود رأي أي عقد رأى، وهذا قول الحسن والضحاك ورواية عطية عن ابن عباس وثالثها : أن الباء بمعنى في ومعنى الآية : فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون، أفي فرقة الإسلام أم في فرقة الكفار ورابعها : المفتون هو الشيطان إذ لا شك أنه مفتون في دينه وهم لما قالوا إنه مجنون فقد قالوا : إن به شيطاناً فقال تعالى : سيعلمون غداً بأيهم شيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٠٣
٦٠٥
وفيه وجهان : الأول : هو أن يكون المعنى إن ربك هو أعلم بالمجانين على الحقيقة، وهم الذي ضلوا عن سبيله وهو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون الثاني : أن يكون المعنى إنهم رموك بالجنون ووصفوا أنفسهم بالعقل وهم كذبوا في ذلك، ولكنهم موصوفون بالضلال، وأنت موصوف بالهداية والامتياز الحاصل بالهداية والضلال أولى بالرعاية من الامتياز الحاصل بسبب العقل والجنون، لأن ذاك / ثمرته السعادة الأبدية (أ) والشقاوة، وهذا ثمرته السعادة (أ) والشقاوة في الدنيا.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٠٥
٦٠٦
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما عليه الكفار في أمر الرسول ونسبته إلى الجنون مع الذي أنعم الله به عليه من الكمال في أمر الدين والخلق، أتبعه بما يدعوه إلى التشدد مع قومه وقوى قلبه بذلك مع قلة العدد وكثرة الكفار، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل فقال :﴿فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ﴾ يعني رؤساء أهل مكة، وذلك أنهم دعوه إلى دين آبائه فنهاه الله أن يطيعهم، وهذا من الله إلهاب وتهييج التشدد في مخالفتهم. ثم قال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٠٦
٦٠٧
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الليث : الإدهان اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام، قال المبرد : داهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر، والمعنى تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك ويتركوا بعض مالا ترضى فتلين لهم ويلينون لك، وروى عطاء عن ابن عباس : لو تكفر فيكفرون.
المسألة الثانية : إنما رفع ﴿فَيُدْهِنُونَ﴾ ولم ينصب بإضمار أن وهو جواب التمني لأنه قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون كقوله :﴿فَمَنا يُؤْمِن بِرَبِّه فَلا يَخَافُ﴾ (الجن : ١٣) على معنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ، قال سيبويه : وزعم هارون وكان من القراء أنها في بعض المصاحف :(ودوا لو تدهن فيدهنوا). واعلم أنه تعالى لما نهاه عن طاعة المكذبين، وهذا يتناول النهي عن طاعة جميع الكفار إلا أنه أعاد النهي عن طاعة من كان من الكفار موصفاً بصفات مذمومة وراء الكفر، وتلك الصفات هي هذه :
الصفة الأولى : كونه حلافاً، والحلاف من كان كثير الحلف في الحق والباطل، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف ومثله قوله :﴿وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لايْمَـانِكُمْ﴾ (البقرة : ٢٢٤).
الصفة الثانية : كونه مهيناً، قال الزجاج : هو فعيل من المهانة، ثم فيه وجهان أحدهما : أن المهانة هي القلة والحقارة في الرأي والتمييز والثاني : أنه إنما كان مهيناً لأن المراد الحلاف / في الكذب، والكذاب حقير عند الناس. وأقول : كونه حلافاً يدل على أنه لا يعرف عظمة الله تعالى وجلاله، إذ لو عرف ذلك لما أقدم في كل حين وأوان بسبب كل باطل على الاستشهاد باسمه وصفته ومن لم يكن عالماً بعظمة الله وكان متعلق القلب بطلب الدنيا كان مهيناً، فهذا يدل على أن عزة النفس لا تحصل إلا لمن عرف نفسه بالعبودية، وأن مهانتها لا تحصل إلا لمن غفل عن سر العبودية.


الصفحة التالية
Icon