المسألة الأولى : اعلم أن قوله :﴿أَن كَانَ﴾ يجوز أن يكون متعلقاً بما قبله وأن يكون متعلقاً بما بعده أما الأول : فتقديره : ولا تطع كل حلاف مهين أن كان ذا مال وبنين، أي لا تطعه مع هذه المثالب ليساره وأولاده وكثرته، وأما الثاني : فتقديره لأجل أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين، والمعنى لأجل أن كان ذا مال وبنين جعل مجازاة هذه النعم التي خولها الله له الكفر بآياته قال أبو علي الفاسي : العامل في قوله :﴿أَن كَانَ﴾ إما أن يكون هو قوله :﴿تُتْلَى ﴾ أو قوله ﴿قَالَ﴾. أو شيئاً ثالثاً، والأول باطل لأن ﴿تُتْلَى ﴾ قد أضيفت ﴿إِذَا﴾ إليه والمضاف إليه لا يعمل فيما قبله ألا ترى أنك لا تقول : القتال زيداً حين يأتى تريد حين يأتي زيداً، ولا يجوز أن يعمل فيه أيضاً ﴿قَالَ﴾ لأن ﴿قَالَ﴾ جواب ﴿إِذَا﴾، وحكم الجواب أن يكون بعدما هو جواب له ولا يتقدم عليه، ولما بطل هذان القسمان علمنا أن العامل فيه شيء ثالث دل ما في الكلام عليه وذلك هو يجحد أو يكفر أو يمسك عن قبول الحق أو نحو ذلك، وإنما جاز أن يعمل المعنى فيه، وإن كان متقدماً عليه لشبهه بالظرف، والظرف قد تعمل فيه المعاني وإن تقدم عليها، ويدلك على مشابهته للظرف تقدير اللام معه، فإن تقدير الآية : لأن كان ذا مال وإذا صار كالظرف لم يمتنع المعنى من أن يعمل فيه، كما لم يمتنع من أن يعمل في نحو قوله :﴿يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ (سبأ : ٧) لما كان ظرفاً، والعامل فيه القسم الدال عليه قوله :﴿إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ فكذلك قوله :﴿أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ﴾ تقديره : إنه جحد آياتنا، لأن كان ذا مال وبنين أو كفر بآياتنا، لأن كان ذا مال وبنين.
المسألة الثانية : قرىء :﴿أَن كَانَ﴾ على الاستفهام، والتقدير : ألأن كان ذال مال كذب، أو التقدير : أتطيعه لأن كان ذا مال. وروى الزهري عن نافع : إن كان بالكسر، والشرط للمخاطب، أي لا تطع كل حلاف شارطاً يساره، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى، ونظير صرف الشرط إلى المخاطب صرف الترجى إليه في قوله :﴿لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ﴾ (طه : ٤٤).
واعلم أنه تعالى لما حكى عنه قبائح أفعاله وأقواله قال متوعداً له :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٠٧
٦٠٨
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الوسم أثر الكية وما يشبهها، يقال : وسمته فهو موسوم بسمة يعرف بها إما كية، وإما قطع في أذن علامة له.
المسألة الثانية : قال المبرد : الخرطوم ههنا الأنف، وإنما ذكر هذا اللفظ على سبيل الاستخفاف به، لأن التعبير عن أعضاء الناس بالأسماء الموضوعة، لأشباه تلك الأعضاء من الحيوانات يكون استخفافاً، كما يعبر عن شفاه الناس بالمشافر، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر.
المسألة الثالثة : الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه لارتفاعه عليه، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية، واشتقوا منه الأنفة، وقالوا : الأنف في الأنف وحمى أنفه، وفلان شامخ العرنين، وقالوا في الذليل : جدع أنفه، ورغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة، لأن السمة على الوجه شين، فكيف على أكرم موضع من الوجه.
المسألة الرابعة : منهم من قال : هذا الوسم يحصل في الآخرة، ومنهم من قال : يحصل في الدنيا، أما على القول الأول : ففيه وجوه أولها : وهو قول مقاتل وأبي العالية واختيار الفراء : أن المراد أنه يسود وجهه قبل دخول النار، والخرطوم وإن كان قد خص بالسمة فإن المراد هو الوجه لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض وثانيها : أن الله تعالى سيجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل القيامة، إنه كان غالياً في عداوة الرسول، وفي إنكار الدين الحق وثالثها : أن في الآية احتمالاً آخر عندي، وهو أن ذلك الكافر إنما بالغ في عداوة الرسول وفي الطعن في الدين الحق بسبب الأنفة والحمية، فلما كان منشأ هذا الإنكار هو الأنفة والحمية كان منشأ عذاب الآخرة هو هذه الأنفة والحمية، فعبر عن هذا الاختصاص بقوله :﴿سَنَسِمُه عَلَى الْخُرْطُومِ﴾، وأما على القول الثاني : وهو أن هذا الوسم إنما يحصل في الدنيا ففيه وجوه : أحدها : قال ابن عباس سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش. وروي أنه قاتل يوم بدر فخطم بالسيف في القتال / وثانيها : أن معنى هذا الوسم أنه يصير مشهوراً بالذكر الرديء والوصف القبيح في العالم، والمعنى سنلحق به شيئاً لا يفارقه ونبين أمره بياناً واضحاً حتى لا يخفى كما لا تخفى السمة على الخراطيم، تقول العرب للرجل الذي تسبه في مسبة قبيحة باقية فاحشة : قد وسمه ميسم سوء، والمراد أنه ألصق به عاراً لا يفارقه كما أن السمة لا تنمحي ولا تزول ألبتة، قال جرير :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٠٨
لما وضعت على الفرزدق ميسمي
وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل


الصفحة التالية
Icon