يريد أنه وسم الفرزدق (والبعيث) وجدع أنف الأخطل بالهجاء أي ألقى عليه عاراً لا يزول، ولا شك أن هذه المبالغة العظيمة في مذمة الوليد بن المغيرة بقيت على وجه الدهر فكان ذلك كالموسم على الخرطوم، ومما يشهد لهذا الوجه قول من قال في ﴿زَنِيمٍ﴾ إنه يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها وثالثها : يروى عن النضر بن شميل أن الخرطوم هو الخمر وأنشد :
تظل يومك في لهو وفي طرب
وأنت بالليل شراب الخراطيم
فعلى هذا معنى الآية : سنحده على شرب الخمر وهو تعسف، وقيل للخمر الخرطوم كما يقال لها السلافة، وهي ما سلف من عصير العنب، أو لأنها تطير في الخياشيم.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٠٨
٦٠٨
اعلم أنه تعالى لما قال : لأجل أن كان ذا مال وبنين، جحد وكفر وعصى وتمرد، وكان هذا استفهاماً على سبيل الإنكار بين في هذه الآية أنه تعالى إنما أعطاه المال والبنين على سبيل الابتلاء والامتحان، وليصرفه إلى طاعة الله، وليواظب على شكر نعم الله، فإن لم يفعل ذلك فإنه تعالى يقطع عنه تلك النعم، ويصب عليه أنواع البلاء والآفات فقال :﴿إِنَّا بَلَوْنَـاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ﴾ أي كلفنا هؤلاء أن يشكروا على النعم، كما كلفنا أصحاب الجنة ذات الثمار، أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم، روي أن واحداً من ثقيف وكان مسلماً، كان يملك ضيعة فيها نخل وزرع بقرب صنعاء، وكان يجعل من كل ما فيها عند الحصاد نصيباً وافراً للفقراء، فلما مات ورثها منه بنوه، ثم قالوا : عيالنا كثير، والمال قليل، ولا يمكننا أن نعطي المساكين، مثل ما كان يفعل أبونا، فأحرق الله جنتهم، وقيل : كانوا من بني إسرائيل، وقوله :﴿إِذْ أَقْسَمُوا ﴾ إذ حلفوا :﴿لَيَصْرِمُنَّهَا﴾ ليقطعن ثمر نخيلهم مصبحين، أي في وقت الصباح، قال مقاتل : معناه أغدوا سراً إلى جنتكم، فاصرموها، ولا تخبروا المساكين، وكان أبوهم يخبر المساكين، فيجتمعون عند صرام جنتهم، يقال : قد صرم العذق عن النخلة، وأصرم النخل إذا حان وقت صرامه، وقوله :﴿وَلا يَسْتَثْنُونَ﴾ يعني ولم يقولوا : إن شاء / الله، هذا قول جماعة المفسرين، يقال : حلف فلان يميناً ليس فيها ثنيا ولا ثنوى، ولا ثنية ولا مثنوية ولا استثناء وكله واحد، وأصل هذا كله من الثنى وهو الكف والرد، وذلك أن الحالف إذا قال : والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله غيره، فقد رد انعقاد ذلك اليمين، واختلفوا في قوله :﴿وَلا يَسْتَثْنُونَ﴾ فالأكثرون أنهم إنما لم يستثنوا بمشيئة الله تعالى لأنهم كانوا كالواثقين بأنهم يتمكنون من ذلك لا محالة، وقال آخرون : بل المراد أنهم يصرمون كل ذلك ولا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم إلى المساكين.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٠٨
٦٠٨
﴿طَآاـاِفٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ أي عذاب من ربك، والطائف لا يكون إلا ليلاً أي طرقها طارق من عذاب الله، قال الكلبي : أرسل الله عليها ناراً من السماء فاحترقت وهم نائمون فأصبحت الجنة كالصريم.
واعلم أن الصريم فعيل، فيحتمل أن يكون بمعنى المفعول، وأن يكون بمعنى الفاعل وههنا احتمالات أحدها : أنها لما احترقت كانت شبيهة بالمصرومة في هلاك الثمر وإن حصل الاختلاف في أمور أخر، فإن الأشجار إذا احترقت فإنها لا تشبه الأشجار التي قطعت ثمارها، إلا أن هذا الاختلاف وإن حصل من هذا الوجه، لكن المشابهة في هلاك الثمر حاصلة وثانيها : قال الحسن : أي صرم عنها الخير فليس فيها شيء، وعلى هذين الوجهين الصريم بمعنى المصروم وثالثها : الصريم من الرمل قطعة ضخمة تنصرم عن سائر الرمال وجمعه الصرائم، وعلى هذا شبهت الجنة وهي محترقة لا ثمر فيها ولا خير بالرملة المنقطعة عن الرمال، وهي لا تنبت شيئاً ينتفع به ورابعها : الصبح يسمى صريماً لأنه انصرم من الليل، والمعنى أن تلك الجنة يبست وذهبت خضرتها ولم يبق فيها شيء، من قولهم : بيض الإناء إذا فرغه وخامسها : أنها لما احترقت صارت سوداء كالليل المظلم، والليل يسمى صريماً وكذا النهار يسمى أيضاً صريماً، لأن كل واحد منهما ينصرم بالآخر، وعلى هذا الصريم بمعنى الصارم، وقال قوم : سمي الليل صريماً، لأنه يقطع بظلمته عن التصرف وعلى هذا هو فعيل بمعنى فاعل، وقال آخرون : سميت الليلة بالصريم، لأنها تصرم نور البصر وتقطعه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٠٨
٦٠٩
قال مقاتل : لما أصبحوا قال بعضهم لبعض :﴿اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ﴾ ويعني بالحرث الثمار والزروع والأعناب، ولذلك قال : صارمين لأنهم أرادوا قطع الثمار من هذه الأشجار. فإن قيل : لم لم / يقل اغدوا إلى حرثكم، وما معنى على ؟
قلنا : لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدواً عليه كما تقول : غدا عليهم العدو، ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال، كقولهم : يغدي عليهم بالجفنة ويراح، أي فأقبلوا على حرثكم باكرين.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٠٩
٦٠٩


الصفحة التالية
Icon