أي ليس له في الآخرة حميم أي قريب يدفع عنه ويحزن عليه، لأنهم يتحامون ويفرون منه كقوله :﴿وَلا يَسْـاَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ وكقوله :﴿مَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٣
٦٣٣
فيه مسألتان :
المسألة الأولى : يروى أن ابن عباس سئل عن الغسلين، فقال : لا أدري ما الغسلين. وقال الكلبي : وهو ماء يسيل من أهل النار من القيح والصديد والدم إذا عذبوا فهو ﴿غِسْلِينٍ﴾ فعلين من الغسل.
المسألة الثانية : الطعام ما هيء للأكل، فلما هيء الصديد ليأكله أهل النار كان طعاماً لهم، ويجوز أن يكون المعنى أن ذلك أقيم لهم مقام الطعام فسمى طعاماً، كما قال :
تحية بينهم ضرب وجيع
والتحية لا تكون ضرباً إلا أنه لما أقيم مقامه جاز أن يسمى به.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٣
٦٣٣
ثم إنه تعالى ذكر أن الغسلين أكل من هو ؟
فقال :﴿لا يَأْكُلُه ا إِلا الْخَـاطِـاُونَ﴾ الآثمون أصحاب الخطايا وخطىء الرجل إذا تعمد الذنب وهم المشركون، وقرىء الخاطيون بإبدال الهمزة ياء والخاطون بطرحها، وعن ابن عباس أنه طعن في هذه القراءة، وقال ما الخاطيون كلنا نخطو إنما هو الخاطئون، ما الصابون، إنما هو الصابئون، ويجوز أن يجاب عنه بأن المراد الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله.
واعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة على إمكان القيامة، ثم على وقوعها، ثم ذكر أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، ختم الكلام بتعظيم القرآن فقال.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٣
٦٣٤
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : منهم من قال : المراد أقسم ولا صلة، أو يكون رد الكلام سبق، ومنهم من قال : لا ههنا نافية للقسم، كأنه قال : لا أقسم، على أن هذا القرآن ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ (الحاقة : ٤٠) يعني أنه لوضوحه يستغني عن القسم، والاستقصاء في هذه المسألة سنذكره في أول سورة ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَـامَةِ﴾ (القيامة : ١).
المسألة الثانية : قوله :﴿بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ﴾ يوم جميع الأشياء على الشمول، لأنها لا تخرج من قسمين : مبصر وغير مبصر، فشمل الخالق والخلق، والدنيا والآخرة، والأجسام والأرواح، والإنس والجن، والنعم الظاهرة والباطنة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٤
٦٣٤
واعلم أنه تعالى ذكر في سورة (التكوير : ١) :﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ مثل هذا الكلام، والأكثرون هناك على أن المراد منه جبريل عليه السلام، والأكثرون ههنا على أن المراد منه محمد صلى الله عليه وسلّم، واحتجوا / على الفرق بأن ههنا لما قال :﴿إِنَّه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر، ولا كاهن، والقوم ما كانوا يصفون جبريل عليه السلام بالشعر والكهانة، بل كانوا يصفون محمداً بهذين الوصفين. وأما في سورة :﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ لما قال :﴿إِنَّه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ ثم قال بعده :﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَـانٍ رَّجِيمٍ﴾ (التكوير : ٢٥) كان المعنى : إنه قول ملك كريم، لا قول شيطان رجيم، فصح أن المراد من الرسول الكريم ههنا هو محمد صلى الله عليه وسلّم، وفي تلك السورة هو جبريل عليه السلام، وعند هذا يتوجه السؤال : أن الأمة مجمعة على أن القرآن كلام الله تعالى، وحينئذ يلزم أن يكون الكلام الواحد كلاماً لله تعالى، ولجبريل ولمحمد، وهذا غير معقول والجواب : أنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب، فهو كلام الله تعالى، بمعنى أنه تعالى هو الذي أظهره في اللوح المحفوظ، وهو الذي رتبه ونظمه، وهو كلام جبريل عليه السلام، بمعنى أنه هو الذي أنزله من السموات إلى الأرض، وهو كلام محمد، بمعنى أنه هو الذي أظهره للخلق، ودعا الناس إلى الإيمان به، وجعله حجة لنبوته.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٤
٦٣٤
وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الجمهور : تؤمنون وتذكرون بالتاء المنقوطة من فوق على الخطاب إلا ابن كثير، فإنه قرأهما بالياء على المغايبة، فمن قرأ على الخطاب، فهو عطف على قوله :﴿بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ﴾ (الحاقة : ٣٨، ٣٩) ومن قرأ على المغايبة سلك فيه مسلك الالتفات.
المسألة الثانية : قالوا : لفظة ما في قوله :﴿قَلِيلا مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍا قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ لغو وهي مؤكدة، وفي قوله :﴿قَلِيلا﴾ وجهان الأول : قال مقاتل : يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله، والمعنى لا يؤمنون أصلاً، والعرب يقولون : قلما يأتينا يريدون لا يأتينا الثاني : أنهم قد يؤمنون في قلوبهم، إلا أنهم يرجعون عنه سريعاً ولا يتمون الاستدلال، ألا ترى إلى قوله :﴿إِنَّه فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾ إلا أنه في آخر الأمر قال :﴿إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ (المدثر : ٢٤).