هذا قول أهل اللغة، قال مقاتل : تنزع النار الهامة والأطراف فلا تترك لحماً ولا جلداً إلا أحرقته، وقال سعيد بن جبير : العصب والعقب ولحم الساقين واليدين، وقال ثابت البناني : لمكارم وجه بني آدم. واعلم أن النار إذا أفنت هذه الأعضاء، فالله تعالى يعيدها مرة أخرى، كما قال :﴿نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَـاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ﴾.
[بم قوله تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٤٤
٦٤٤
فيه مسألتان :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن لظى كيف تدعو الكافر، فذكروا وجوهاً أحدها : أنها تدعوهم بلسان الحال كما قيل : سل الأرض من أشق أنهارك، وغرس أشجارك ؟
فإن لم تجبك جؤاراً، أجابتك اعتباراً فههنا لما كان مرجع كل واحد من الكفار إلى زاوية من زوايا جهنم، كأن تلك المواضع تدعوهم وتحضرهم وثانيها : أن الله تعالى يخلق الكلام في جرم النار حتى تقول صريحاً : إلي يا كافر، إلي يا منافق، ثم تلتقطهم التقاط الحب وثالثها : المراد أن زبانية النار يدعون فأضيف ذلك الدعاء إلى النار بحذف المضاف ورابعها : تدعو تهلك من قول العرب دعاك الله أي أهلكك، وقوله :﴿مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ﴾ يعني من أدبر عن الطاعة وتولى عن الإيمان ﴿وَجُمِعَ﴾ المال ﴿فَأَوْعَى ﴾ أي جعله في وعاء وكنزه، ولم يؤد الزكاة والحقوق الواجبة فيها فقوله :﴿أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ﴾ إشارة إلى الإعراض عن معرفة الله وطاعته، وقوله :﴿وَجَمَعَ فَأَوْعَى ﴾ إشارة إلى حب الدنيا، فجمع إشارة إلى الحرص، وأوعى إشارة إلى الأمل، ولا شك أن مجامع آفات الدين ليست إلا هذه.
[بم قوله تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٤٤
٦٤٥
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال بعضهم : المراد بالإنسان ههنا الكافر، وقال آخرون : بل هو على عمومه، بدليل أنه استثنى منه إلا المصلين.
المسألة الثانية : يقال : هلع الرجل يهلع هلعاً وهلاعاً فهو هالع وهلوع، وهو شدة الحرص وقلة الصبر، يقال : جاع فهلع، وقال الفراء : الهلوع الضجور، وقال المبرد : الهلع الضجر، يقال : نعوذ بالله من الهلع عند منازلة الأقران، وعن أحمد بن يحيى، قال لي محمد بن عبدالله بن طاهر : ما الهلع ؟
فقلت : قد فسره الله، ولا تفسير أبين من تفسيره، هو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله خير بخل ومنعه الناس.
المسألة الثالثة : قال القاضي قوله تعالى :﴿إِنَّ الانسَـانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ نظير لقوله :﴿خُلِقَ الانْسَـانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ وليس المراد أنه مخلوق على هذا الوصف، والدليل عليه أن الله تعالى ذمه عليه والله تعالى لا يذم فعله، ولأنه تعالى استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك هذه الخصلة / المذمومة، ولو كانت هذه الخصلة ضرورية حاصلة بخلق الله تعالى لما قدروا على تركها. واعلم أن الهلع لفظ واقع على أمرين : أحدهما : الحالة النفسانية التي لأجلها يقدم الإنسان على إظهار الجزع والتضرع والثاني : تلك الأفعال الظاهرة من القول والفعل الدالة على تلك الحالة النفسانية، أما تلك الحالة النفسانية فلا شك أنها تحدث بخلق الله تعالى، لأن من خلقت نفسه على تلك الحالة لا يمكنه إزالة تلك الحالة من نفسه، ومن خلق شجاعاً بطلاً لا يمكنه إزالة تلك الحالة عن نفسه بل الأفعال الظاهرة من القول والفعل يمكنه تركها والإقدام عليها فهي أمور اختيارية، أما الحالة النفسانية التي هي الهلع في الحقيقة فهي مخلوقة على سبيل الاضطرار.
[بم قوله تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٤٥
٦٤٥
المراد من الشر والخير الفقر والغنى أو المرض والصحة، فالمعنى أنه إذا صار فقيراً أو مريضاً أخذ في الجزع والشكاية، وإذا صار غنياً أو صحيحاً أخذ في منع المعروف وشح بماله ولم يلتفت إلى الناس، فإن قيل : حاصل هذا الكلام أنه نفور عن المضار طالب للراحة، وهذا هو اللائق بالعقل فلم ذمه الله عليه ؟
قلنا : إنما ذمه عليه لأنه قاصر النظر على الأحوال الجسمانية العاجلة، وكان من الواجب عليه أن يكون مشغولاً بأحوال الآخرة، فإذا وقع في مرض أو فقر وعلم أنه فعل الله تعالى كان راضياً به، لعلمه أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وإذا وجد المال والصحة صرفهما إلى طلب السعادات الأخروية، واعلم أنه استثنى من هذه الحالة المذكورة المذمومة من كان موصوفاً بثمانية أشياء :
(٢٢)
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٤٥
٦٤٥