ثم قال تعالى :﴿وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ﴾.
اعلم أن نوحاً عليه السلام إنما دعاهم إلى العبادة والتقوى والطاعة لأجل أن يغفر لهم، فإن المقصود الأول هو حصول المغفرة، وأما الطاعة فهي إنما طلبت ليتوسل بها إلى تحصيل المغفرة، ولذلك لما أمرهم بالعبادة قال :﴿يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ (نوح : ٤) فلما كان المطلوب الأول من الدعوة حصول المغفرة لا جرم قال :﴿وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ﴾ واعلم أنه عليه السلام لما دعاهم عاملوه بأشياء :
أولها : قوله :﴿جَعَلُوا أَصَـابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ﴾ والمعنى أنهم بلغوا في التقليد إلى حيث جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا الحجة والبينة.
وثانيها : قوله :﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ أي تغطوا بها، إما لأجل أن لا يبصروا وجهه كأنهم لم يجوزوا أن يسمعوا كلامه، ولا أن يروا وجهه. وإما لأجل المبالغة في أن لا يسمعوا، فإنهم إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم، ثم استغشوا ثيابهم مع ذلك، صار المانع من السماع أقوى.
وثالثها : قوله :﴿وَأَصَرُّوا ﴾ والمعنى أنهم أصروا على مذهبهم، أو على إعراضهم عن سماع دعوة الحق.
ورابعها : قوله :﴿وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ أي عظيماً بالغاً إلى النهاية القصوى.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٥٢
٦٥٣
واعلم أن هذه الآيات تدل على أن مراتب دعوته كانت ثلاثة، فبدأ بالمناصحة في السر، فعاملوه بالأمور الأربعة، ثم ثنى بالمجاهرة، فلما لم يؤثر جمع بين الإعلان والإسرار، وكلمة ﴿ثُمَّ﴾ دالة على تراخي بعض هذه المراتب عن بعض إما بحسب الزمان، أو بحسب الرتبة، لأن الجهار أغلظ / من الإسرار، والجمع بين الإسرار والجهار أغلظ من الجهار وحده، فإن قيل : بم انتصب ؟
قلنا : فيه وجوه أحدها : أنه منصوب بدعوتهم نصب المصدر، لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد لكونها أحد أنواع القعود وثانيها : أنه أريد بدعوتهم جاهرتهم وثالثها : أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهاراً، أي مجاهراً به ورابعها : أن يكون مصدراً في موضع الحال أي مجاهراً.
[بم قوله تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٥٣
٦٥٣
قال مقاتل : إن قوم نوح لما كذبوه زماناً طويلاً حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فرجعوا فيه إلى نوح، فقال نوح : استغفروا ربكم من الشرك حتى يفتح عليكم أبواب نعمه.
واعلم أن الاشتغال بالطاعة سبب لانفتاح أبواب الخيرات، ويدل عليه وجوه أحدها : أن الكفر سبب لخراب العالم على ما قال في كفر النصارى :﴿تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـانِ وَلَدًا﴾ (مريم : ٩٠، ٩١) فلما كان الكفر سبباً لخراب العالم، وجب أن يكون الإيمان سبباً لعمارة العالم وثانيها : الآيات منها هذه الآية ومنها قوله :﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ا ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـاتٍ﴾ (الأعراف : ٩٦) ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لاكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ﴾ (المائدة : ٦٦) ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَـامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاسْقَيْنَـاهُم مَّآءً غَدَقًا﴾ (الجن : ١٦) ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ﴾ (الطلاق : ٢ ـ ٣) ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْـاَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ﴾ (طه : ١٣٢) وثالثها : أنه تعالى قال :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات : ٥٦) فإذا اشتغلوا بتحصيل المقصود حصل ما يحتاج إليه في الدنيا على سبيل التبعية ورابعها : أن عمر خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار، فقيل له : ما رأيناك استسقيت، فقال : لقد استسقيت بمجاديح السماء. المجدح ثلاثة كواكب مخصوصة، ونوءه يكون عزيزاً شبه عمر إلا استغفاراً بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء، وعن بكر بن عبدالله : أن أكثر الناس ذنوباً أقلهم استغفاراً، وأكثرهم استغفاراً أقلهم ذنوباً، وعن الحسن : أن رجلاً شكا إليه الجدب، فقال : استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له بعض القوم : أتاك رجال يشكون إليك أنواعاً من الحاجة، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا له الآية، وههنا سؤالات :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٥٣


الصفحة التالية
Icon