الأول : أن نوحاً عليه السلام أمر الكفار قبل هذه الآية بالعبادة والتقوى والطاعة، فأي فائدة في أن أمرهم بعد ذلك بالاستغفار ؟
الجواب : أنه لما أمرهم بالعبادة قالوا له : إن كان الدين القديم الذي كنا عليه حقاً فلم تأمرنا بتركه، وإن كان باطلاً فكيف يقبلنا بعد أن / عصيناه، فقال نوح عليه السلام : إنكم وإن كنتم عصيتموه ولكن استغفروه من تلك الذنوب، فإنه سبحانه كان غفاراً.
السؤال الثاني : لم قال :﴿إِنَّه كَانَ غَفَّارًا﴾ ولم يقل : إنه غفار ؟
قلنا المراد : إنه كان غفاراً في حق كل من استغفروه كأنه يقول : لا تظنوا أن غفاريته إنما حدثت الآن، بل هو أبداً هكذا كان، فكأن هذا هو حرفته وصنعته.
[بم وقوله تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٥٣
٦٥٣
واعلم أن الخلق مجبولون على محبة الخيرات العاجلة، ولذلك قال تعالى :﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ﴾ فلا جرم أعلمهم الله تعالى ههنا أن إيمانهم بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة الخصب والغنى في الدنيا.
والأشياء التي وعدهم من منافع الدنيا في هذه الآية خمسة أولها : قوله :﴿يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا﴾ وفي السماء وجوه : أحدها :(أن) المطر منها ينزل إلى السحاب وثانيها : أن يراد بالسماء السحاب وثالثها : أن يراد بالسماء المطر من قوله :
إذا نزل السماء بأرض قوم
(رعيناه وإن كانوا غضابا)
والمدرار الكثير الدرور، ومفعال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، كقولهم : رجل أو امرأة معطار ومتفال وثانيها : قوله :﴿وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ﴾ وهذا لا يختص بنوع واحد من المال بل يعم الكل وثالثها : قوله :﴿وَبَنِينَ﴾ ولا شك أن ذلك مما يميل الطبع إليه. ورابعها : قوله :﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـاتٍ﴾ أي بساتين وخامسها : قوله :﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَـارًا﴾. ثم قال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٥٣
٦٥٤
وفيه قولان : الأول : أن الرجاء ههنا بمعنى الخوف ومنه قول الهذلي :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
والوقار العظمة والتوقير التعظيم، ومنه قوله تعالى :﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ بمعنى ما بالكم لا تخافون لله عظمة. وهذا القول عندي غير جائز، لأن الرجاء ضد الخوف في اللغة المتواترة الظاهرة، فلو قلنا : إن لفظة الرجاء في اللغة موضوعة بمعنى الخوف لكان ذلك ترجيحاً للرواية الثابتة بالآحاد على الرواية / المنقولة بالتواتر وهذا يفضي إلى القدح في القرآن، فإنه لا لفظ فيه إلا ويمكن جعل نفيه إثباتاً وإثباته نفياً بهذا الطريق الوجه الثاني : ما ذكره صاحب "الكشاف" وهو أن المعنى : مالكم لا تأملون لله توقيراً أي تعظيماً، والمعنى مالكم لا تكونوا على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم و﴿لِلَّهِ﴾ بيان للموقر، ولو تأخر لكان صلة للوقار.
[بم وقوله تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٥٤
٦٥٥
في موضع الحال كأنه قال : مالكم لا تؤمنون بالله، والحال هذه وهي حال موجبة للإيمان به ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ أي تارات خلقكم أولاً تراباً، ثم خلقكم نطفاً، ثم خلقكم علقاً، ثم خلقكم مضغاً، ثم خلقكم عظاماً ولحماً، ثم أنشأكم خلقاً آخر، وعندي فيه وجه ثالث : وهو أن القوم كانوا يبالغون في الاستخفاف بنوح عليه السلام فأمرهم الله تعالى بتوقيره وترك الاستخفاف به، فكأنه قال لهم : إنكم إذا وقرتم نوحاً وتركتم الاستخفاف به كان ذلك لأجل الله، فما لكم لا ترجون وقاراً وتأتون به لأجل الله ولأجل أمره وطاعته، فإن كل ما يأتي به الإنسان لأجل الله، فإنه لا بد وأن يرجوا منه خيراً ووجه رابع : وهو أن الوقار وهو الثبات من وقر إذا ثبت واستقر، فكأنه قال :﴿مَالَكُمْ﴾ وعند هذا تم الكلام، ثم قال على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ﴿لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ (الجن : ١٣) أي لا ترجون لله ثباتاً وبقاء، فإنكم لو رجوتم ثباته وبقاءه لخفتموه، ولما أقدمتم على الاستخفاف برسله وأوامره، والمراد من قوله :﴿تَرْجُونَ﴾ أي تعتقدون لأن الراجي للشيء معتقد له.
واعلم أنه لما أمر في هذه الآية بتعظيم الله استدل على التوحيد بوجوه من الدلائل :
الأول : قوله :﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ وفيه وجهان : الأول : قال الليث : الطورة التارة يعني حالاً بعد حال كما ذكرنا أنه كان نطفة، ثم علقة إلى آخر التارات الثاني : قال ابن الأنباري : الطور الحال، والمعنى خلقكم أصنافاً مختلفين لا يشبه بعضكم بعضاً، ولما ذكر هذا الدليل من الأنفس على التوحيد، أتبعه بذكر دليل التوحيد من الآفاق على العادة المعهودة في كل القرآن..
الدليل الثاني : على التوحيد قوله تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٥٥
٦٥٥