واعلم أنه تعالى تارة يبدأ بدلائل الأنفس، وبعدها بدلائل الآفاق كما في هذه الآية، وذلك لأن نفس الإنسان أقرب الأشياء إليه، فلا جرم بدأ بالأقرب، وتارة يبدأ بدلائل الآفاق، ثم بدلائل الأنفس إما لأن دلائل الآفاق أبهر وأعظم، فوقعت البداية بها لهذا السبب، أو لأجل / أن دلائل الأنفس حاضرة، لا حاجة بالعاقل إلى التأمل فيها، إنما الذي يحتاج إلى التأمل فيه دلائل الآفاق، لأن الشبه فيها أكثر، فلا جرم تقع البداية بها، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : قوله :﴿سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ طِبَاقًا﴾ يقتضي كون بعضها منطبقاً على البعض، وهذا يقتضي أن لا يكون بينها فرج، فالملائكة كيف يسكنون فيها ؟
الجواب : الملائكة أرواح فلعل المراد من كونها طباقاً كونها متوازية لا أنها متماسة.
السؤال الثاني : كيف قال :﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا﴾ والقمر ليس فيها بأسرها بل في السماء الدنيا ؟
والجواب : هذا كما يقال السلطان في العراق ليس المراد أن ذاته حاصلة في جميع أحياز العراق بل إن ذاته في حيز من جملة أحياز العراق فكذا ههنا.
السؤال الثالث : السراج ضوءه عرضي وضوء القمر عرضي متبدل فتشبيه القمر بالسراج أولى من تشبيه الشمس به الجواب : الليل عبارة عن ظل الأرض والشمس لما كانت سبباً لزوال ظل الأرض كانت شبيهة بالسراج، وأيضاً فالسراج له ضوء والضوء أقوى من النور فجعل الأضعف للقمر والأقوى للشمس، ومنه قوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ (يونس : ٥).
الدليل الثالث : على التوحيد قوله تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٥٥
٦٥٥
واعلم أنه تعالى رجع ههنا إلى دلائل الأنفس وهو كالتفسير لقوله :﴿خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ (نوح : ١٤) فإنه بين أنه تعالى خلقهم من الأرض ثم يردهم إليها ثم يخرجهم منها مرة أخرى، أما قوله :﴿أَنابَتَكُم مِّنَ الارْضِ نَبَاتًا﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في هذه الآية وجهان أحدهما : معنى قوله :﴿أَنابَتَكُم مِّنَ الارْضِ﴾ أي أنبت أباكم من الأرض كما قال :﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَا خَلَقَه مِن تُرَابٍ﴾ (آل عمران : ٥٩). والثاني : أنه تعالى أنبت الكل من الأرض لأنه تعالى إنما يخلقنا من النطف وهي متولدة من الأغذية المتولدة من النبات المتولد من الأرض.
المسألة الثانية : كان ينبغي أن يقال : أنبتكم إنباتاً إلا أنه لم يقل ذلك بل قال : أنبتكم نباتاً، والتقدير أنبتكم فنبتم نباتاً، وفيه دقيقة لطيفة : وهي أنه لو قال : أنبتكم إنباتاً كان المعنى أنبتكم إنباتاً عجيباً غريباً، ولما قال : أنبتكم نباتاً كان المعنى أنبتكم فنبتم نباتاً عجيباً، وهذا الثاني أولى لأن الإنبات صفة لله تعالى وصفة الله غير محسوسة لنا، فلا نعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب كامل إلا / بواسطة إخبار الله تعالى، وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة الله تعالى فلا يمكن إثباته بالسمع، أما لما قال :﴿وَأَنابَتَهَا نَبَاتًا﴾ على معنى أنبتكم فنبتم نباتاً عجيباً كاملاً كان ذلك وصفاً للنبات بكونه عجيباً كاملاً، وكون النبات كذلك أمر مشاهد محسوس، فيمكن الاستدلال به على كمال قدرة الله تعالى، فكان هذا موافقاً لهذا المقام فظهر أن العدول من تلك الحقيقة إلى هذا المجاز كان لهذا السر اللطيف، أما قوله :﴿ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا﴾ فهو إشارة إلى الطريقة المعهودة في القرآن من أنه تعالى لما كان قادراً على الابتداء كان قادراً على الإعادة، وقوله :﴿وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾ أكده بالمصدر كأنه قال : يخرجكم حقاً لا محالة.
الدليل الرابع : قوله تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٥٥
٦٥٨
أي طرقاً واسعة واحدها فج وهو مفسر فيما تقدم.
واعلم أن نوحاً عليه السلام لما دعاهم إلى الله ونبههم على هذه الدلائل الظاهرة حكى عنهم أنواع قبائحهم وأقوالهم وأفعالهم.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٥٨
٦٥٩
فالأول قوله :﴿قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى﴾ وذلك لأنه قال في أول السورة ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ﴾ (نوح : ٣) فكأنه قال : قلت لهم أطيعون فهم عصوني.
الثاني قوله :﴿وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُه وَوَلَدُهُ ا إِلا خَسَارًا﴾ وفيه مسألتان :


الصفحة التالية
Icon