الاحتمال الرابع : وهو أن يحمل لفظ الثياب، ولفظ التطهير على المجاز، وذكروا على هذا الاحتمال وجوهاً الأول : وهو قول أكثر المفسرين : وقلبك فطهر عن الصفات المذمومة وعن الحسن :﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ قال : وخلقك فحسن، قال القفال : وهذا يحتمل وجوهاً أحدها : أن الكفار لما لقبوه بالساحر شق ذلك عليه جداً، حتى رجع إلى بيته وتدثر بثيابه، وكان ذلك إظهار جزع وقلة صبر يقتضيه سوء الخلق، فقيل له :﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾ (المدثر : ٢) ولا تحملنك سفاهتهم على ترك إنذارهم بل حسن خلقك والثاني : أنه زجر عن التخلق بأخلاقهم، فقيل له : طهر ثيابك أي قلبك عن أخلاقهم، في الافتراء والتقول والكذب وقطع الرحم والثالث : فطهر نفسك وقلبك عن أن تعزم على الانتقام منهم والإساءة إليهم، ثم إذا فسرنا الآية بهذا الوجه، ففي كيفية اتصالها بما قبلها وجهان الأول : أن يقال : إن الله تعالى لما ناداه في أول السورة، فقال :﴿رَّحِيمُ * يَـا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ (المدثر : ١) وكان التدثر لباساً، والدثار من الثياب، قيل طهر ثيابك التي أنت متدثر بها عن أن تلبسها على هذا التفكر والجزع والضجر من افتراء المشركين الوجه الثاني : أن يفسر المدثر بكونه متدثراً بالنبوة، كأنه قيل : يا أيها المتدثر بالنبوة طهر ما تدثرت به عن الجزع وقلة الصبر، والغضب والحقد، فإن ذلك لا يليق بهذا الدثار، ثم أوضح ذلك بقوله :﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ (المدثر : ٧) واعلم أن حمل المدثر على المتصف ببعض الصفات جائز، يقال : فلان طاهر الجيب نقي الذيل، إذا وصفوه بالنقاء من المعايب، ويقال : فلان دنس الثياب إذا كان موصوفاً بالأخلاق الذميمة، قال الشاعر :
فلا أب وابناً مثل مروان وابنه
إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
والسبب في حسن هذه الكناية وجهان الأول : أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان، فلهذا / السبب جعلوا الثواب كناية عن الإنسان، يقال : المجد في ثوبه والعفة في إزاره والثاني : أن الغالب أن من طهر باطنه، فإنه يطهر ظاهره الوجه الثاني : في تأويل الآية أن قوله :﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أمر له بالاحتراز عن الآثام والأوزار التي كان يقدم عليها قبل النبوة، وهذا على تأويل من حمل قوله :﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾ (الشرح : ٢، ٣) على أيام الجاهلية الوجه الثاني : في تأويل الآية قال محمد بن عرفة النحوي معناه : نساءك طهرهن، وقد يكنى عن النساء بالثياب، قال تعالى :﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾ (البقرة : ١٨٧) وهذا التأويل بعيد، لأن على هذا الوجه لا يحسن اتصال الآية بما قبلها.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٠٢
٧٠٢
فيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في الرجز وجوهاً الأول : قال العتبي : الرجز العذاب قال الله تعالى :﴿لَـاـاِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ﴾ (الأعراف : ١٣٤) أي العذاب ثم سمي كيد الشيطان رجزاً لأنه سبب للعذاب، وسميت الأصنام رجزاً لهذا المعنى أيضاً، فعلى هذا القول تكون الآية دالة على وجوب الاحتراز عن كل المعاصي، ثم على هذا القول احتمالان أحدهما : أن قوله :﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ يعني كل ما يؤدي إلى الرجز فاهجره، والتقدير وذا الزجر فاهجر أي ذا العذاب فيكون المضاف محذوفاً والثاني : أنه سمي إلى ما يؤدي إلى العذاب عذاباً تسمية للشيء، باسم ما يجاوره ويتصل به القول الثاني : أن الرجز اسم للقبيح المستقذر وهو معنى الرجس، فقوله :﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ كلام جامع في مكارم الأخلاق كأنه قيل له : اهجر الجفاء والسفه وكل شيء قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز، وهذا يشاكل تأويل من فسر قوله :﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ (المدثر : ٤) على تحسين الخلق وتطهير النفس عن المعاصي والقبائح.
المسألة الثانية : احتج من جوز المعاصي على الأنبياء بهذه الآية، قال لولا أنه كان مشتغلاً بها وإلا لما زجر عنها بقوله :﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ والجواب المراد منه الأمر بالمداومة على ذلك الهجران، كما أن المسلم إذا قال : اهدنا فليس معناه أنا لسنا على الهداية فاهدنا، بل المراد ثبتنا على هذه الهداية، فكذا ههنا.
المسألة الثالثة : قرأ عاصم في رواية حفص والرجز بضم الراء في هذه السورة وفي سائر القرآن بكسر الراء، وقرأ الباقون وعاصم في رواية أبي بكر بالكسر وقرأ يعقوب بالضم، ثم قال الفراء : هما لغتان والمعنى واحد، وفي كتاب الخليل الرجز بضم الراء عبادة الأوثان وبكسر الراء العذاب، ووسواس الشيطان أيضاً رجز، وقال أبو عبيدة : أفشى اللغتين وأكثرهما الكسر.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٠٢
٧٠٣
فيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon