المسألة الأولى : القراءة المشهورة تستكثر برفع الراء وفيه ثلاثة أوجه أحدها : أن / يكون التقدير ولا تمنن لتستكثر فتنزع اللام فيرتفع وثانيها : أن يكون التقدير لا تمنن أن تستكثر ثم تحذف أن الناصبة فتسلم الكلمة من الناصب والجازم فترتفع ويكون مجاز الكلام لا تعط لأن تستكثر وثالثها : أنه حال متوقعة أي لا تمنن مقدراً أن تستكثر قال أبو علي الفارسي : هو مثل قولك مررت برجل معه صقر صائداً به غدا أي مقدراً للصيد فكذا ههنا المعنى مقدراً الاستكثار، قال : ويجوز أن يحكي به حالاً أتية، إذا عرفت هذا فنقول، ذكروا في تفسير الآية وجوهاً أحدها : أنه تعالى أمره قبل هذه الآية، بأربعة أشياء : إنذار القوم، وتكبير الرب، وتطهير الثياب، وهجر الرجز، ثم قال :﴿وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ﴾ أي لا تمنن على ربك بهذه الأعمال الشاقة، كالمستكثر لما تفعله، بل اصبر على ذلك كله لوجه ربك متقرباً بذلك إليه غير ممتن به عليه. قال الحسن، لا تمنن على ربك بحسناتك فتستكثرها وثانيها : لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين، والوحي كالمستكثر لذلك الإنعام، فإنك إنما فعلت ذلك بأمر الله، فلا منة لك عليهم، ولهذا قال :﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ (المدثر : ٧)، وثالثها : لا تمنن عليهم بنبوتك لتستكثر، أي لتأخذ منهم على ذلك أجراً تستكثر به مالك ورابعها : لا تمنن أي لا تضعف من قولهم : حبل منين أي ضعيف، يقال : منه السير أي أضعفة. والتقدير فلا تضعف أن تستكثر من هذه الطاعات الأربعة التي أمرت بها قبل هذه الآية، ومن ذهب إلى هذا قال : هو مثل قوله :﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُوانِّى أَعْبُدُ﴾ (الزمر : ٦٤) أي أن أعبد فحذفت أن وذكر الفراء أن في قراءة عبد الله (ولا تمتن تستكثر) وهذا يشهد لهذا التأويل، وهذا القول اختيار مجاهد وخامسها : وهو قول أكثر المفسرين أن معنى قوله :﴿وَلا تَمْنُن﴾ أي لا تعط يقال : مننت فلاناً كذا أي أعطيته، قال :﴿هَـاذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ﴾ (ص : ٣٩) أي فأعط، أو أمسك وأصله أن من أعطى فقد من، فسميت العطية بالمن على سبيل الاستعارة، فالمعنى ولا تعط مالك لأجل أن تأخذ أكثر منه، وعلى هذا التأويل سؤالات :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٠٣
السؤال الأول : ما الحكمة في أن الله تعالى منعه من هذا العمل ؟
الجواب : الحكمة فيه من وجوه الأول : لأجل أن تكون عطاياه لأجل الله لا لأجل طلب الدنيا، فإنه نهى عن طلب الدنيا في قوله :﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ (الحجر : ٨٨) وذلك لأن طلب الدنيا لا بد وأن تكون الدنيا عنده عزيزة، ومن كان كذلك لم يصلح لأداء الرسالة الثاني : أن من أعطى غيره القليل من الدنيا ليأخذ الكثير لا بد وأن يتواضع لذلك الغير ويتضرع له، وذلك لا يليق بمنصب النبوة، لأنه يوجب دناءة الآخذ، ولهذا السبب حرمت الصدقات عليه، وتنفير المأخوذ منه، ولهذا قال :﴿أَمْ تَسْـاَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ﴾ (الطور : ٤٠).
السؤال الثاني : هذا النهي مختص بالرسول عليه الصلاة والسلام، أم يتناول الأمة ؟
الجواب : ظاهر اللفظ لا يفيد العموم وقرينة الحال لا تقتضي العموم لأنه عليه الصلاة والسلام إنما نهى عن ذلك تنزيهاً لمنصب النبوة، وهذا المعنى غير موجود في الأمة، ومن الناس من قال / هذا المعنى في حق الأمة هو الرياء، والله تعالى منع الكل من ذلك.