السؤال الثالث : بتقدير أن يكون هذا النهي مختصاً بالنبي صلى الله عليه وسلّم فهو نهي تحريم أو نهي تنزيه ؟
والجواب : ظاهر النهي للتحريم الوجه السادس : في تأويل الآية قال القفال : يحتمل أن يكون المقصد من الآية أن يحرم على النبي صلى الله عليه وسلّم أن يعطي لأحد شيئاً لطلب عوض سواء كان ذلك العوض زائداً أو ناقصاً أو مساوياً، ويكون معنى قوله :﴿تَسْتَكْثِرُ﴾ أي طالباً للكثرة كارهاً أن ينقص المال بسبب العطاء، فيكون الاستكثار ههنا عبارة عن طلب العوض كيف كان، وإنما حسنت هذه الاستعارة لأن الغالب أن الثواب يكون زائداً على العطاء، فسمى طلب الثواب استكثاراً حملاً للشيء على أغلب أحواله، وهذا كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها فسمي الولد ربيباً، ثم اتسع الأمر فسمي ربيبا وإن كان حين تتزوج أمه كبيراً، ومن ذهب إلى هذا القول قال : السبب فيه أن يصير عطاء النبي صلى الله عليه وسلّم خالياً عن انتظار العوض والتفات الناس إليه، فيكون ذلك خالصاً مخلصاً لوجه الله تعالى الوجه السابع : أن يكون المعنى ولا تمنن على الناس بما تنعم عليهم وتعطيهم استكثاراً منك لتلك العطية، بل ينبغي أن تستقلها وتستحقرها وتكون كالمتعذر من ذلك المنعم عليه في ذلك الإنعام، فإن الدنيا بأسرها قليلة، فكيف ذلك القدر الذي هو قليل في غاية القلة بالنسبة إلى الدنيا، وهذه الوجوه الثلاثة الأخيرة كالمرتبة فالوجه الأول : معناه كونه عليه الصلاة والسلام ممنوعاً من طلب الزيادة في العوض والوجه الثاني : معناه كونه ممنوعاً عن طلب مطلق العوض زائداً كان أو مساوياً أو ناقصاً والوجه الثالث : معناه أن يعطي وينسب نفسه إلى التقصير ويجعل نفسه تحت منة المنعم عليه حيث قبل منه ذلك الإنعام الوجه الثامن : معناه إذا أعطيت شيئاً فلا ينبغي أن تمن عليه بسبب أنك تستكثر تلك العطية، فإن المن محبط لثواب العمل، قال تعالى :﴿لا تُبْطِلُوا صَدَقَـاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَه رِئَآءَ النَّاسِ﴾ (البقرة : ٢٦٤).
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٠٣
المسألة الثانية : قرأ الحسن :﴿تَسْتَكْثِرُ﴾ بالجزم وأكثر المحققين أبوا هذه القراءة، ومنهم من قبلها وذكروا في صحتها ثلاثة أوجه : أحدها : كأنه قيل : لا تمنن لا تستكثر وثانيها : أن يكون أراد تستكثر فأسكن الراء لثقل الضمة مع كثرة الحركات، كما حكاه أبو زيد في قوله تعالى :﴿بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ بإسكان اللام وثالثها : أن يعتبر حال الوقف، وقرأ الأعمش :﴿تَسْتَكْثِرُ﴾ بالنصب بإضمار أن كقوله :
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى
(وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى)
ويؤيده قراءة ابن مسعود : ولا تمنن أن تستكثر.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٠٣
٧٠٤
فيه وجوه : أحدها : إذا أعطيت المال فاصبر على ترك / المن والاستكثار أي أترك هذا الأمر لأجل مرضاة ربك وثانيها : إذا أعطيت المال فلا تطلب العوض، وليكن هذا الترك لأجل ربك وثالثها : أنا أمرناك في أول هذه السورة بأشياء ونهيناك عن أشياء فاشتغل بتلك الأفعال والتروك لأجل أمر ربك، فكأن ما قبل هذه الآية تكاليف بالأفعال والتروك، وفي هذه الآية بين ما لأجله يجب أن يؤتى بتلك الأفعال والتروك وهو طلب رضا الرب ورابعها : أنا ذكرنا أن الكفار لما اجتمعوا وبحثوا عن حال محمد صلى الله عليه وسلّم قام الوليد ودخل داره فقال القوم : إن الوليد قد صبأ فدخل عليه أبو جهل، وقال : إن قريشاً جمعوا لك مالاً حتى لا تترك دين آبائك، فهو لأجل ذلك المال بقي على كفره، فقيل لمحمد : إنه بقي على دينه الباطل لأجل المال، وأما أنت فاصبر على دينك الحق لأجل رضا الحق لا لشيء غيره وخامسها : أن هذا تعريض بالمشركين كأنه قيل له :﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ (المدثر : ٣) لا الأوثان ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ (المدثر : ٤) ولا تكن كالمشركين نجس البدن والثياب ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ (المدثر : ٥) ولا تقربه كما تقربه الكفار ﴿وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ﴾ (المدثر : ٦) كما أراد الكفار أن يعطوا الوليد قدراً من المال وكانوا يستكثرون ذلك القليل ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ على هذه الطاعات لا للأغراض العاجلة من المال والجاه.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٠٤
٧٠٤
اعلم أنه تعالى لما تمم ما يتعلق بإرشاد قدوة الأنبياء وهو محمد صلى الله عليه وسلّم، عدل عنه إلى شرح وعيد الأشقياء وهو هذه الآية، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : الفاء في قوله :﴿فَإِذَا نُقِرَ﴾ للسبب كأنه قال :﴿اصْبِرْ عَلَى ﴾ فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى أنت عاقبة صبرك عليه.