قوله تعالى :﴿كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ﴾ وجه الاستدلال بالآية للأصحاب ظاهر لأنه تعالى ذكر في أول الآية قوله :﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ثم ذكر في آخر الآية :﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَـافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـاذَا مَثَلا ﴾ ثم قال :﴿كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ﴾ أما المعتزلة فقد ذكروا الوجوه المشهورة التي لهم أحدها : أن المراد من الإضلال منع الألطاف وثانيها : أنه لما اهتدى قوم باختيارهم عند نزول هذه الآيات وضل قوم باختيارهم عند نزولها أشبه ذلك أن المؤثر في ذلك الاهتداء وذلك الإضلال هو / هذه الآيات، وهو كقوله :﴿فَزَادَتْهُمْ إِيمَـانًا﴾ (التوبة : ١٢٤) وكقوله :﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا﴾ (التوبة : ١٢٥) وثالثها : أن المراد من قوله :﴿يُضِلُّ﴾ ومن قوله :﴿يَهْدِى ﴾ حكم الله بكونه ضالاً ويكون مهتدياً ورابعها : أنه تعالى يضلهم يوم القيامة عن دار الثواب، وهذه الكلمات مع أجوبتها تقدمت في سورة البقرة في قوله :﴿يُضِلُّ بِه كَثِيرًا وَيَهْدِي بِه كَثِيرًا ﴾ (البقرة : ٢٦).
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧١٣
قوله تعالى :﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ ﴾ فيه وجوه : أحدها : وهو الأولى أن القوم استقبلوا ذلك العدد، فقال تعالى :﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ ﴾ فهب أن هؤلاء تسعة عشر إلا أن لكل واحد منهم من الأعوان والجنود مالا يعلم عددهم إلا الله وثانيها : وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين ولكن له في هذا العدد حكمة لا يعلمها الخلق وهو جل جلاله يعلمها وثالثها : أنه لا حاجة بالله سبحانه في تعذيب الكفار والفساق إلى هؤلاء الخزنة، فإنه هو الذي يعذبهم في الحقيقة، وهو الذي يخلق الآلام فيهم، ولو أنه تعالى قلب شعرة في عين ابن آدم أو سلط الألم على عرق واحد من عروق بدنه لكفاه ذلك بلاء ومحنة، فلا يلزم من تقليل عدد الخزنة قلة العذاب، فجنود الله غير متناهية لأن مقدوراته غير متناهية.
قوله تعالى :﴿وَمَا هِىَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ الضمير في قوله :﴿وَمَا هِىَ﴾ إلى ماذا يعود ؟
فيه قولان : الأول : أنه عائد إلى سقر، والمعنى وما سقر وصفتها إلا تذكرة للبشر والثاني : أنه عائد إلى هذه الآيات المشتملة على هذه المتشابهات، وهي ذكرى لجميع العالمية، وإن كان المنتفع بها ليس إلا أهل الإيمان.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧١٣
٧١٤
ثم قال تعالى :﴿كَلا﴾ وفيه وجوه أحدها : أنه إنكار بعد أن جعلها ذكرى، أن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون وثانيها : أنه ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذيراً وثالثها : أنه ردع لقول أبي جهل وأصحابه : إنهم يقدرون على مقاومة خزنة النار ورابعها : أنه ردع لهم عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة.
ثم قال تعالى :﴿كَلا وَالْقَمَرِ * وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ﴾ وفيه قولان : الأول : قال الفراء والزجاج : دبر وأدبر بمعنى واحد كقبل وأقبل ويدل على هذا قراءة من قرأ إذا دبر، وروى أن مجاهداً سأل ابن عباس عن قوله :﴿دُبُرٍ﴾ فسكت حتى إذا أدبر الليل قال : يا مجاهد هذا حين دبر الليل، وروى أبو الضحى أن ابن عباس كان يعيب هذه القراءة ويقول : إنما يدبر ظهر البعير، قال الواحدي : والقراءتان عند أهل اللغة سواء على ما ذكرنا، وأنشد أبو علي :
وأبى الذي ترك الملوك وجمعهم
بصهاب هامدة كأمس الدابر
القول الثاني : قال أبو عبيدة وابن قتيبة : دبر أي جاء بعد النهار، يقال : دبرني أي جاء خلفي ودبر الليل أي جاء بعد النهار، قال قطرب : فعلى هذا معنى إذا دبر إذا أقبل بعد مضي النهار.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧١٤
٧١٤
أي أضاء، وفي الحديث :"أسفروا بالفجر" ومنه قوله :﴿وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ مُّسْفِرَةٌ﴾ (عبس : ٣٨) أي مضيئة.
ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧١٤
٧١٤
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا الكلام هو جواب القسم أو تعليل لكلام والقسم معترض للتوكيد.
المسألة الثانية : قال الواحدي : ألف إحدى مقطوع ولا تذهب في الوصل. وروي عن ابن كثير أنه قرأ إنها لإحدى الكبر بحذف الهمزة كما يقال : ويلمه، وليس هذا الحذف بقياس والقياس التخفيف وهو أن يجعل بين بين.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : الكبر جمع الكبرى جعلت ألف التأنيث كتاء التأنيث فكما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها ونظير ذلك السوافي جمع السافياء وهو التراب الذي سفته الريح، والقواصع في جميع القاصعاء كأنهما جمع فاعلة.
المسألة الرابعة :﴿إِنَّهَا لاحْدَى الْكُبَرِ﴾ يعني أن سقر التي جرى ذكرها لإحدى الكبر والمراد من الكبر دركات جهنم، وهي سبعة : جهنم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم والهاوية، أعاذنا الله منها.


الصفحة التالية
Icon