﴿وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ مع أن المراد ما ذكروه تقدح في فصاحة الكلام.
الاحتمال الثاني : أن لا ههنا لنفي القسم كأنه قال : لا أقسم عليكم بذلك اليوم وتلك النفس ولكني أسألك غير مقسم أتحسب أنا لا نجمع عظامك إذا تفرقت بالموت فإن كنت تحسب ذلك فاعلم أنا قادرون على أن نفعل ذلك، وهذا القول اختيار أبي مسلم وهو الأصح، ويمكن تقدير هذا القول على وجوه أخر أحدها : كأنه تعالى يقول :﴿لا أُقْسِمُ﴾ بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب فإن هذا المطلوب أعظم وأجل من أن يقسم عليه بهذه الأشياء ويكون الغرض من هذا الكلام تعظيم المقسم عليه وتفخيم شأنه وثانيها : كأنه تعالى يقول :﴿لا أُقْسِمُ﴾ بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب، فإن إثباته أظهر وأجلى وأقوى وأحرى، من أن يحاول إثباته بمثل هذا القسم، ثم قال بعده :﴿أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَه ﴾ (القيامة : ٣) أي كيف خطر بباله هذا الخاطر الفاسد مع ظهور فساده وثالثها : أن يكون الغرض منه الاستفهام على سبيل الإنكار والتقدير ألا أقسم بيوم القيامة. ألا أقسم بالنفس اللوامة على أن الحشر والنشر حق.
المسألة الثانية : ذكروا في النفس اللوامة وجوهاً أحدها : قال ابن عباس : إن كل نفس فإنها تلوم نفسها يوم القيامة سواء كانت برة أو فاجرة، أما البرة فلأجل أنها لم لم تزد على طاعتها، وأما الفاجرة فلأجل أنها لم لم تشتغل بالتقوى، وطعن بعضهم في هذا الوجه من وجوه الأول : أن من يستحق الثواب لا يجوز أن يلوم نفسه على ترك الزيادة، لأنه لو جاز منه لوم نفسه على ذلك لجاز من غيره أن يلومها عليه الثاني : أن الإنسان إنما يلوم نفسه عند الضجارة وصيق القلب، وذلك لا يليق بأهل الجنة حال كونهم في الجنة، ولأن المكلف يعلم أنه لا مقدار من / الطاعة إلا ويمكن الإتيان بما هو أزيد منه، فلو كان ذلك موجباً للوم لامتنع الانفكاك عنه وما كان كذلك لا يكون مطلوب الحصول، ولا يلام على ترك تحصيله والجواب : عن الكل أن يحمل اللوم على تمني الزيادة، وحينئذ تسقط هذه الأسئلة وثانيها : أن النفس اللوامة هي النفوس المتقية التي تلوم النفس العاصية يوم القيامة بسبب أنها تركت التقوى.
ثالثها : أنها هي النفوس الشريفة التي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الطاعة، وعن الحسن أن المؤمن لا تراه إلا لائماً نفسه، وأما الجاهل فإنه يكون راضياً بما هو فيه من الأحوال الخسيسة ورابعها : أنها نفس آدم لم تزل تلوم على فعلها الذي خرجت به من الجنة وخامسها : المراد نفوس الأشقياء حين شاهدت أحوال القيامة وأهوالها، فإنها تلوم نفسها على ما صدر عنها من المعاصي، ونظيره قوله تعالى :﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَـاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ﴾ (الزمر : ٥٦) وسادسها : أن الإنسان خلق ملولا، فأي شيء طلبه إذا وجده مله، فحينئذ يلوم نفسه على أني لم طلبته، فلكثرة هذا العمل سمي بالنفس اللوامة، ونظيره قوله تعالى :﴿إِنَّ الانسَـانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ (المعارج : ١٩ ـ ٢١) واعلم أن قوله لوامة، ينبىء عن التكرار والإعادة، وكذا القول في لوام وعذاب وضرار.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٢٢
المسألة الثالثة : اعلم أن في الآية إشكالات أحدها : ما المناسبة بين القيامة وبين النفس اللوامة، حتى جمع الله بينهما في القسم ؟
وثانيها : المقسم عليه، هو وقوع القيامة فيصير حاصلة أنه تعالى أقسم بوقوع القيامة وثالثها : لم قال :﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَـامَةِ﴾ ولم يقل : والقيامة، كما قال في سائر السور، والطور والذاريات والضحى ؟
والجواب : عن الأول من وجوه أحدها : أن أحوال القيامة عجيبة جداً، ثم المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النفوس اللوامة. أعني سعادتها وشقاوتها، فقد حصل بين القيامة والنفوس اللوامة هذه المناسبة الشدية وثانيها : أن القسم بالنفس اللوامة تنبيه على عجائب أحوال النفس على ما قال عليه الصلاة والسلام :"من عرف نفسه فقد عرف ربه" ومن أحوالها العجيبة، قوله تعالى :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات : ٥٦) وقوله :﴿إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ﴾ إلى قوله ﴿وَحَمَلَهَا الانسَـانُ ﴾ (الأحزاب : ٧٢) وقال قائلون : القسم وقع بالنفس اللوامة على معنى التعظيم لها من حيث إنها أبداً تستحقر فعلها وجدها واجتهادها في طاعة الله، وقال آخرون : إنه تعالى أقسم بالقيامة، ولم يقسم بالنفس اللوامة، وهذا على القراءة الشاذة التي رويناها عن الحسن، فكأنه تعالى قال :﴿أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَـامَةِ﴾ تعظيماً لها، ولا أقسم بالنفس تحقيراً لها، لأن النفس اللوامة إما أن تكون كافرة بالقيامة مع عظم أمرها، وإما أن تكون فاسقة مقصرة في العمل، وعلى التقديرين فإنها تكون مستحقرة.


الصفحة التالية
Icon