آل عمران : ٣٦) فوجدت الخلعة والقبول وهو قوله :﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنابَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ (آل عمران : ٣٧) والسابع : أن مريم عليها السلام لما رأت جبريل في صورة بشر يقصدها في الخلوة قالت :﴿إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا﴾ (مريم : ٦٨) فوجدت نعمتين ولداً من غير أب وتنزيه الله إياها بلسان ذلك الولد عن السوء وهو قوله :﴿إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ﴾ (مريم : ٣٠) الثامن : أن الله تعالى أمر محمداً عليه الصلاة والسلام بالاستعاذة مرة بعد أخرى فقال :﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ (المؤمنون : ٩٨) وقال :﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ والتاسع : قال في سورة الأعراف ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه إِنَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الأعراف : ٢٠٠) وقال في حم السجدة :﴿ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَه عَدَاوَةٌ كَأَنَّه وَلِىٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت : ٣٤) إلى أن قال :﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ فهذه الآيات دالة على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا أبداً في الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن.
وأما الأخبار فكثيرة : الخبر الأول : عن معاذ بن جبل قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلّم وأغرقا فيه : فقال عليه السلام :"إني لأعلم كلمة لو قالاها لذهب عنهما ذلك، وهي قوله :"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وأقول هذا المعنى مقرر في العقل من وجوه : الأول : أن الإنسان يعلم أن علمه بمصالح هذا العالم ومفاسده قليل جداً، وأنه إنما يمكنه أن يعرف ذلك القليل بمدد العقل، وعند الغضب يزول العقل، فكل ما يفعله ويقوله لم يكن على القانون الجيد، فإذا استحضر في عقله هذا صار هذا المعنى مانعاً له عن الإقدام على تلك الأفعال وتلك الأقوال، وحاملاً له على أن يرجع إلى الله تعالى في تحصيل الخيرات ودفع الآفات، فلا جرم يقول أعوذ بالله. الثاني : أن الإنسان غير عالم قطعاً بأن الحق من جانبه ولا من جانب بخصمه، فإذا علم ذلك يقول : أفوض هذه الواقعة إلى الله تعالى/ فإذا كان الحق من جانبي فالله يستوفيه من خصمي، وإن كان الحق من جانب خصمي فالأولى أن لا أظلمه" / وعند هذا يفوض تلك الحكومة إلى الله ويقول أعوذ بالله. الثالث : أن الإنسان إنما يغضب إذا أحس من نفسه بفرط قوة وشدة بواسطتها يقوى على قهر الخصم، فإذا استحضر في عقله أن إله العالم أقوى وأقدر مني ثم إني عصيته مرات وكرات وأنه بفضله تجاوز عني فالأولى لي أن أتجاوز عن هذا المغضوب عليه، فإذا أحضر في عقله هذا المعنى ترك الخصومة والمنازعة وقال : أعوذ بالله، وكل هذه المعاني مستنبطة من قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَا ا ِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ (الأعراف : ٢٠١) والمعنى أنه إذا تذكر هذه الأسرار والمعاني أبصر طريق الرشد فترك النزاع والدفاع ورضي بقضاء الله تعالى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
والخبر الثاني : وروى معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ؛ وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة".
قلت : وتقريره من جانب العقل أن قوله :(أعوذ بالله) مشاهدة لكمال عجز النفس وغاية قصورها، والآيات الثلاث من آخر سورة الحشر مشاهدة لكمال الله وجلاله وعظمته، وكمال الحال في مقام العبودية لا يحصل إلا بهذين المقامين.
الخبر الثالث : روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"من استعاذ في اليوم عشر مرات وكل الله تعالى به ملكاً يذود عنه الشيطان".
قلت : والسبب فيه أنه لما قال :(أعوذ بالله) وعرف معناه عرف منه نقصان قدرته ونقصان علمه، وإذا عرف ذلك من نفسه لم يلتفت إلى ما تأمره به النفس، ولم يقدم على الأعمال التي تدعوه نفسه إليها، والشيطان الأكبر هو النفس، فثبت أن قراءة هذه الكلمة تذود الشيطان عن الإنسان.
والخبر الرابع : عن خولة بنت حكيم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال :"من نزل منزلاً فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من ذلك المنزل".


الصفحة التالية
Icon