جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٣٤
وأما التأويل الثاني : وهو أن المراد إلى ثواب ربها ناظرة، فهذا ترك للظاهر، وقوله : إنما صرنا إليه لقيام الدلائل العقلية والنقلية على أن الله لا يرى، قلنا : بينا في الكتب العقلية ضعف تلك الوجوه، فلا حاجة ههنا إلى ذكرها والله أعلم.
وقوله تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٣٤
٧٣٥
الباسر : الشديد العبوس والباسل أشد منه، ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحه، والمعنى أنها عابسة كالحة قد / أظلمت ألوانها وعدمت آثار السرور والنعمة منها، لما أدركها من الشقاء واليأس من رحمة الله، ولما سودها الله حين ميز الله أهل الجنة والنار، وقد تقدم تفسير البسور عند قوله :﴿عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ (المدثر : ٢٢) وإنما كانت بهذه الصفة، لأنها قد أيقنت أن العذاب نازل، وهو قوله :﴿تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ والظن ههنا بمعنى اليقين، هكذا قاله المفسرون، وعندي أن الظن إنما ذكر ههنا على سبيل التهكم كأنه قيل : إذا شاهدوا تلك الأحوال، حصل فيهم ظن أن القيامة حق، وأما الفاقرة، فقال أبو عبيدة : الفاقرة الداهية، وهو اسم للوسم الذي يفقر به على الأنف، قال الأصمعي : الفقر أن يحز أنف البعير حتى يخلص إلى العظم، أو قريب منه، ثم يجعل فيه خشبة يجر البعير بها، ومنه قيل : عملت به الفاقرة، قال المبرد : الفاقرة داهية تكسر الظهر، وأصلها من الفقرة والفقارة كأن الفاقرة داهية تكسر فقار الظهر، وقال ابن قتيبة : يقال فقرت الرجل، كما يقال رأسته وبطنته فهو مفقور، واعلم أن من المفسرين من فسر الفاقرة بأنواع العذاب في النار، وفسرها الكلبي فقال : الفاقرة هي أن تحجب عن رؤية ربها ولا تنظر إليه.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٣٥
٧٣٥
قوله تعالى :﴿كَلا﴾ قال الزجاج : كلا ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، كأنه قيل : لما عرفتم صفة سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء في الآخرة، وعلمتم أنه لا نسبة لها إلى الدنيا، فارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة، وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين، وقال آخرون :﴿كَلا﴾ أي حقاً إذا بلغت التراقي كان كذا وكذا، والمقصود أنه لما بين تعظيم أحوال الآخرة بين أن الدنيا لا بد فيها من الانتهاء والنفاد والوصول إلى تجرع مرارة الموت. وقال مقاتل :﴿كَلا﴾ أي لا يؤمن الكافر بما ذكر من أمر القيامة، ولكنه لا يمكنه أن يدفع أنه لا بد من الموت، ومن تجرع آلامها، وتحمل آفاتها.
ثم إنه تعالى وصف تلك الحالة التي تفارق الروح فيها الجسد فقال :﴿إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المراد إذا بلغت النفس أو الروح أخبر عما لم يجر له ذكر لعلم المخاطب بذلك، كقوله :﴿إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ﴾ والتراقي جمع ترقوة. وهي عظم وصل بين ثغرة النحر، والعاتق من الجانبين.
واعلم أنه يكنى ببلوغ النفس التراقي عن القرب من الموت، ومنه قول دريد بن الصمة :
ورب عظيمة دافعت عنها
وقد بلغت نفوسهم التراقي
ونظيره قوله تعالى :﴿بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ﴾ (الأحزاب : ١٠).
المسألة الثالثة : قال بعض الطاعنين : إن النفس إنما تصل إلى التراقي بعد مفارقتها عن القلب / ومتى فارقت النفس القلب حصل الموت لا محالة، والآية تدل على أن عند بلوغها التراقي، تبقى الحياة حتى يقال فيه : من راق، وحتى تلتف الساق بالساق والجواب : المراد من قوله :﴿كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ﴾ أي إذا حصل القرب من تلك الحالة.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٣٥
٧٣٥
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في راق وجهان الأول : أن يكون من الرقية يقال : رقاه يرقيه رقية إذا عوذه بما يشفيه، كما يقال : بسم الله أرقيك، وقائل هذا القول على هذا الوجه، هم الذين يكونون حول الإنسان المشرف على الموت، ثم هذا الاستفهام، يحتمل أن يكون بمعنى الطلب كأنهم طلبوا له طبيباً يشفيه، وراقياً يرقيه، ويحتمل أن يكون استفهاماً بمعنى الإنكار، كما يقول القائل عند اليأس : من الذي يقدر أن يرقي هذا الإنسان المشرف على الموت الوجه الثاني : أن يكون قوله :﴿مَنْا رَاقٍ﴾ من رقى يرقي رقياً، ومنه قوله تعالى :﴿وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ﴾ وعلى هذا الوجه يكون قائل هذا القول هم الملائكة. قال ابن عباس : إن الملائكة يكرهون القرب من الكافر، فيقول ملك الموت من يرقى بهذا الكافر، وقال الكلبي : يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة الرحمة، وسبعة من ملائكة العذاب مع ملك الموت، فإذا بلغت نفس العبد التراقي نظر بعضهم إلى بعض، أيهم يرقى بروحه إلى السماء فهو ﴿مَنْا رَاقٍ﴾.


الصفحة التالية
Icon