المسألة الثانية : قال الواحدي إن إظهار النون عند حروف الفم لحسن، فلا يجوز إظهار نون من في قوله :﴿مَنْا رَاقٍ﴾ وروى حفص عن عاصم إظهار النون في قوله :﴿مَنْا رَاقٍ﴾ و﴿بَلْا رَانَ﴾ (المطففين : ١٤) قال أبو علي الفارسي، ولا أعرف وجه ذلك، قال الواحدي، والوجه أن يقال : قصد الوقف على من وبل، فأظهرها ثم ابتدأ بما بعدهما، وهذا غير مرضي من القراءة.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٣٥
٧٣٦
قال المفسرون : المراد أنه أيقن بمفارقته الدنيا، ولعله إنما سمي اليقين ههنا بالظن، لأن الإنسان ما دام يبقى روحه متعلقاً ببدنه، فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة على ما قال :﴿كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ (القيامة : ٢٠) ولا ينقطع رجاؤه عنها فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة، أو لعله سماه بالظن على سبيل التهكم.
واعلم أن الآية دالة على أن الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت البدن، لأنه تعالى سمى الموت فراقاً، والفرق إنما يكون لو كانت الروح باقية، فإن الفراق والوصال صفة، والصفة تستدعي وجود الموصوف.
ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٣٦
٧٣٦
الالتفاف هو الاجتماع، كقوله تعالى :﴿جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾ (الإسراء : ١٠٤) وفي الساق قولان : القول الأول : أنه الأمر الشديد، قال أهل المعاني : لأن الإنسان إذا دهمته شدة شمر لها عن ساقه، فقيل للأمر الشديد : ساق، وتقول العرب : قامت الحرب على ساق، أي اشتدت، قال الجعدي :
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها
وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
ثم قال : والمراد بقوله :﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ أي التفت شدة مفارقة الدنيا ولذاتها وشدة الذهاب، أو التفت شدة ترك الأهل، وترك الولد، وترك المال، وترك الجاه، وشدة شماتة الأعداء، وغم الأولياء، وبالجملة فالشدائد هناك كثيرة، كشدة الذهاب إلى الآخرة والقدوم على الله، أو التفت شدة ترك الأحباب والألياء، وشدة الذهاب إلى دار الغربة والقول الثاني : أن المراد من الساق هذا العضو المخصوص، ثم ذكروا على هذا القول وجوهاً أحدها : قال الشعبي وقتادة : هما ساقاه عند الموت أما رأيته في النزع كيف يضرب بإحدى رجليه على الأخرى والثاني : قال الحسن وسعيد بن المسيب : هما ساقاه إذا التفتا في الكفن والثالث : أنه إذا مات يبست ساقاه، والتصقت إحداهما بالأخرى.
ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٣٦
٧٣٧
المساق مصدر من ساق يسوق، كالمقال من قال يقول، ثم فيه وجهان أحدهما : أن يكون المراد أن المسوق إليه هو الرب والثاني : أن يكون المراد أن السائق في ذلك اليوم هو الرب، أي سوق هؤلاء مفوض إليه.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٣٧
٧٣٧
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى شرح كيفية عمله فيما يتعلق بأصول الدين وبفروعه، وفيما يتعلق بدنياه. أما ما يتعلق بأصول الدين فهو أنه ما صدق بالدين، ولكنه كذب به، وأما ما يتعلق بفروع الدين، فهو أنه ما صلى ولكنه تولى وأعرض، وأما ما يتعلق بدنياه، فهو أنه ذهب إلى أهله يتمطى، ويتبختر، ويختال في مشيته، واعلم أن الآية دالة على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة كما يستحقهما بترك الإيمان.
المسألة الثانية : قوله :﴿فَلا صَدَّقَ﴾ حكاية عمن ؟
فيه قولان : الأول : أنه كناية عن الإنسان في قوله :﴿أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَه ﴾ (القيامة : ٣) ألا ترى إلى قوله :﴿أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾ (القيامة : ٣٦) وهو معطوف على قوله :﴿يَسْـاَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَـامَةِ﴾ (القيامة : ٦) والقول الثاني : أن الآية نزلت في أبي جهل.
المسألة الثالثة : في يتمطى قولان : أحدهما : أن أصله يتمطط أي يتمدد، لأن المتبختر يمد خطاه، فقلبت الطاء فيه ياء، كما قيل : في تقصى أصله تقصص والثاني : من المطا وهو الظهر لأنه يلويه، وفي الحديث :"إذا مشت أمتي المطيطي" أي مشية المتبختر.
المسألة الرابعة : قال أهل العربية :﴿لا﴾ ههنا في موضع لم فقوله :﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ﴾ أي لم يصدق ولم يصل، وهو كقوله :﴿فَلا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ (البلد : ١١) أي لم يقتحم، وكذلك ما روي في الحديث :"أرأيت من لا أكل ولا شرب، ولا استهل" قال الكسائي : لم أر العرب قالت في مثل هذا كلمة وحدها حتى تتبعها بأخرى، إما مصرحاً أو مقدراً، أما المصرح فلا يقولون : لا عبدالله خارج حتى يقولون، ولا فلان، ولا يقولون : مررت برجل لا يحسن حتى يقولوا، ولا يجمل، وأما المقدر فهو كقوله :﴿فَلا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ ثم اعترض الكلام، فقال :﴿وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَـامٌ﴾ (البلد : ١٢، ١٤) وكان التقدير لا فك رقبة، ولا أطعم مسكيناً، فاكتفى به مرة واحدة، ومنهم من قال التقدير في قوله :﴿فَلا اقتَحَمَ﴾ أي أفلا اقتحم، وهلا اقتحم.


الصفحة التالية
Icon