واعلم أنه لا يمكن تفسير الشاكر والكفور بمن يكون مشتغلاً بفعل الشكر وفعل الكفران وإلا لم يتحقق الحصر، بل المراد من الشاكر الذي يكون مقراً معترفاً بوجوب شكر خالقه عليه والمراد من الكفور الذي لا يقر بوجوب الشكر عليه، إما لأنه ينكر الخالق أو لأنه وإن كان يثبته لكنه ينكر وجوب الشكر عليه، وحينئذ يتحقق الحصر وهو أن المكلف، إما أن يكون شاكراً وإما أن يكون كفوراً، واعلم أن الخوارج احتجوا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين المطيع والكافر، قالوا : لأن الشاكر هو المطيع، والكفور هو الكافر، والله تعالى نفى الواسطة وذلك يقتضي أن يكون كل ذنب كفراً، وأن يكون كل مذنب كافراً، واعلم أن البيان الذي لخصناه يدفع هذا الإشكال، فإنه ليس المراد من الشاكر الذي يكون مشتغلاً بفعل الشكر فإن ذلك باطل طرداً وعكساً، أما الطرد فلأن اليهودي قد يكون شاكراً لربه مع أنه لا يكون مطيعاً لربه، والفاسق قد يكون شاكراً لربه، مع أنه لا يكون مطيعاً لربه، وأما العكس فلأن المؤمن قد لا يكون مشتغلاً بالشكر ولا بالكفران، بل يكون ساكناً غافلاً عنهما، فثبت أنه لا يمكن تفسير الشاكر بذلك، بل لا بد وأن يفسر الشاكر بمن يقر بوجوب الشكر والكفور بمن لا يقر بذلك، وحينئذ يثبت الحصر، ويسقط سؤالهم بالكلية والله أعلم.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٤٤
٧٤٦
قوله تعالى :﴿إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَـافِرِينَ سَلَـاسِلا وَأَغْلَـالا وَسَعِيرًا﴾.
اعلم أنه تعالى لما ذكر الفريقين أتبعهما بالوعيد والوعد، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الاعتداد هو إعداد الشيء حتى يكون عتيداً حاضراً متى احتيج إليه، كقوله تعالى :﴿هَـاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ﴾ (ق : ٢٣)وأما السلاسل فتشد بها أرجلهم، وأما الأغلال فتشد بها أيديهم إلى رقابهم، وأما السعير فهو النار التي تسعر عليهم فتوقد فيكونون حطباً لها، وهذا من أغلظ أنواع الترهيب والتخويف.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الجحيم بسلاسلها وأغلالها مخلوقة، لأن قوله تعالى :﴿أَعْتَدْنَا﴾ أخبار عن الماضي، قال القاضي : إنه لما توعد بذلك على التحقيق صار كأنه موجود، قلنا : هذا الذي ذكرتم ترك للظاهر فلا يصار إليه إلا لضرورة.
المسألة الثالثة : قرىء سلاسلاً بالتنوين، وكذلك ﴿قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَا ﴾ ومنهم من يصل بغير تنوين، ويقف بالألف فلمن نون وصرف وجهان أحدهما : أن الأخفش قال : قد سمعنا من العرب صرف جميع مالا ينصرف، قال : وهذا لغة الشعراء لأنهم اضطروا إليه في الشعر فصرفوه، فجرت ألسنتهم على ذلك الثاني : أن هذه الجموع أشبهت الآحاد، لأنهم قالوا صواحبات يوسف، فلما جمعوه جمع الآحاد المنصرفة جعلوها في حكمها فصرفوها، وأما من ترك الصرف فإنه جعله كقوله :﴿لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَـاجِدُ﴾ (الحج : ٤٠) وأما إلحاق الألف في الوقف فهو كإلحاقها في قوله :﴿الظُّنُونَا ﴾ فيشبه ذلك بالإطلاق في القوافي.
ثم إنه تعالى ذكر ما أعد للشاكرين الموحدين فقال :﴿وَأَغْلَـالا وَسَعِيرًا * إِنَّ الابْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ الأبرار جمع بر، كالأرباب جمع رب، والقول في حقيقة البر قد تقدم في تفسير قوله تعالى :﴿وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ﴾ (البقرة : ١٧٧) ثم ذكر من أنواع نعيمهم صفة مشروبهم، فقال :﴿يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ﴾ يعني من إناء فيه الشراب، ولهذا قال ابن عباس ومقاتل : يريد الخمر، وفي الآية سؤالان :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٤٦
السؤال الأول : أن مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً، فما السبب في ذكره ههنا ؟
الجواب : من وجوه أحدها : أن الكافور اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده، ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرته، فالمعنى أن ذلك الشراب يكون ممزوجاً بماء هذه العين وثانيها : أن رائحة الكافور عرض فلا يكون إلا في جسم، فإذا خلق الله تلك الرائحة في جرم ذلك الشراب سمي ذلك الجسم كافوراً، وإن كان طعمه طيباً وثالثها : أي بأس في أن / يخلق الله تعالى الكافور في الجنة لكن من طعم طيب لذيذ، ويسلب عنه ما فيه من المضرة ؟
ثم إنه تعالى يمزجه بذلك المشروب، كما أنه تعالى سلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها في الدنيا من المضار.
السؤال الثاني : ما فائدة كان في قوله :﴿كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ ؟
الجواب : منهم من قال : إنها زائدة، والتقدير من كأس مزاجها كافوراً، وقيل : بل المعنى كان مزاجها في علم الله، وحكمه كافورا.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٤٦
٧٤٩


الصفحة التالية
Icon