المسألة الأولى : إن قلنا : الكافور اسم النهر كان عيناً بدلاً منه، وإن شئت نصبت على المدح، والتقدير أعني عيناً، أما إن قلنا : إن الكافور اسم لهذا الشيء المسمى بالكافور كان عيناً بدلاً من محل من كأس على تقدير حذف مضاف، كأنه قيل : يشربون خمراً خمر عين، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
المسألة الثانية : قال في الآية الأولى :﴿يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ﴾ (الإنسان : ٥) وقال ههنا : يشرب بها، فذكر هناك من وههنا الباء، والفرق أن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته. وأما العين فبها يمزجون شرابهم فكأن المعنى : يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول : شربت الماء بالعسل.
المسألة الثالثة : قوله :﴿يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ عام فيفيد أن كل عباد الله يشربون منها، والكفار بالاتفاق لا يشربون منها، فدل على أن لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان، إذا ثبت هذا فقوله :﴿وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ (الزمر : ٧) لا يتناول الكفار بل يكون مختصاً بالمؤمنين، فيصير تقدير الآية ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، فلا تدل الآية على أنه تعالى لا يريد كفر الكافر.
قوله تعالى :﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ معناه يفجرونها حيث شاؤا من منازلهم تفجيراً سهلا لا يمتنع عليهم واعلم أنه سبحانه لما وصف ثواب الأبرار في الآخرة شرح أعمالهم التي بها استوجبوا ذلك الثواب.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٤٩
٧٤٩
فالأول قوله تعالى :﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الإيفاء بالشيء هو الإتيان به وافياً، أما النذر فقال أبو مسلم : النذر كالوعد، إلا أنه إذا كان من العباد فهو نذر، وإن كان من الله تعالى فهو وعد، واختص هذا اللفظ في عرف الشرع بأن يقول لله على كذا وكذا من الصدقة، أو يعلق ذلك بأمر يلتمسه من الله تعالى مثل أن يقول : إن شفى الله مريضي، أو رد غائبي فعلى كذا كذا، واختلفوا فيما إذا علق ذلك بما ليس من وجوه البر، كما إذا قال : إن دخل فلان الدار فعلى كذا، فمن الناس من جعله كاليمين، ومنهم من جعله من باب النذر، إذا عرفت هذا، فنقول للمفسرين في تفسير الآية أقوال : أولها : أن المراد من النذر هو النذر فقط، ثم قال الأصم : هذا مبالغة في وصفهم بالتوفر عى أداء الواجبات. لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان بما أوجبه الله عليه أوفى، وهذا / التفسير في غاية الحسن وثانيها : المراد بالنذر ههنا كل ما وجب عليه سواء وجب بإيجاب الله تعالى ابتداء أو بأن أوجبه المكلف على نفسه فيدخل فيه الإيمان وجميع الطاعات، وذلك لأن النذر معناه الإيجاب وثالثها : قال الكلبي : المراد من النذر العهد والعقد، ونظيره قوله تعالى :﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ (البقرة : ٤٠) فسمى فرائضه عهداً، وقال :﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ (المائدة : ١) سماها عقوداً لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان.
المسألة الثانية : هذه الآية دالة على وجوب الوفاء بالنذر، لأنه تعالى عقبه بيخافون يوماً وهذا يقتضي أنهم إنما وفوا بالنذر خوفاً من شر ذلك اليوم، والخوف من شر ذلك اليوم لا يتحقق إلا إذا كان الوفاء به واجباً، وتأكد هذا بقوله تعالى :﴿وَلا تَنقُضُوا الايْمَـانَ﴾ (النحل : ٩١) بعد توكيدها وبقوله :﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ (الحج : ٢٩) فيحتمل ليوفوا أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم.
المسألة الثالثة : قال الفراء : وجماعة من أرباب المعاني. كان في قوله :﴿كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ (الإنسان : ٥) زائدة. وأما ههنا فكان محذوفة، والتقدير كانوا يوفون بالنذر. ولقائل أن يقول : إنا بينا أن كان في قوله :﴿كَانَ مِزَاجُهَا﴾ (الإنسان : ٥) ليست بزائدة، وأما في هذه الآية فلا حاجة إلى إضمارها، وذلك لأنه تعالى ذكر في الدنيا أن الأبرار يشربون أي سيشربون، فإن لفظ المضارع مشترك بين الحال والاستقبال، ثم قال : السبب في ذلك الثواب الذي سيجدونه أنهم الآن ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٤٩
النوع الثاني : من أعمال الأبرار التي حكاها الله تعالى عنهم قوله تعالى :﴿وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّه مُسْتَطِيرًا﴾.
واعلم أن تمام الطاعة لا يحصل إلا إذا كانت النية مقرونة بالعمل، فلما حكى عنهم العمل وهو قوله :﴿يُوفُونَ﴾ حكى عنهم النية وهو قوله :﴿وَيَخَافُونَ يَوْمًا﴾ وتحقيقه قوله عليه السلام :"إنما الأعمال بالنيات" وبمجموع هذين الأمرين سماهم الله تعالى بالأبرار وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : أحوال القيامة وأهوالها كلها فعل الله، وكل ما كان فعلاً لله فهو يكون حكمة وصواباً، وما كان كذلك لا يكون شراً، فكيف وصفها الله تعالى بأنها شر ؟
الجواب : أنها إنما سميت شراً لكونها مضرة بمن تنزل عليه وصعبة عليه، كما تسمى الأمراض وسائر الأمور المكروهة شروراً.