العرب كانوا يحبون جعل الزنجبيل في المشروب، لأنه يحدث فيه ضرباً من اللذع، فلما كان كذلك وصف الله شراب أهل الجنة بذلك، ولا بد وأن تكون في الطيب على أقصى الوجوه. قال ابن عباس : وكل ما ذكره الله تعالى في القرآن مما في الجنة، فليس منه في الدنيا إلا الاسم، وتمام القول ههنا مثل ما ذكرناه في قوله :﴿كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٥٣
٧٥٤
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن الأعرابي : لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن، فعلى هذا لا يعرف له اشتقاق، وقال الأكثرون : يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل أي عذب سهل المساغ، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية، ودلت على غاية السلاسة، قال الزجاج : السلسبيل في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة، والفائدة في ذكر السلسبيل هو أن ذلك الشراب يكون في طعم الزنجبيل، وليس فيه لذعة لأن نقيض اللذع هو السلاسة، وقد عزوا إلى علي بن أبي طالب عليه السلام أن معناه : سل سبيلاً إليها، وهو بعيد إلا أن يراد أن جملة قول / القائل : سلسبيلا جعلت علماً للعين، كما قيل : تأبط شراً، وسميت بذلك، لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالعمل الصالح.
المسألة الثانية : في نصب عيناً وجهان أحدهما : أنه بدل من زنجبيلاً وثانيهما : أنه نصب على الاختصاص.
المسألة الثالثة : سلسبيلاً صرف لأنه رأس آية، فصار كقوله الظنونا والسبيلا، وقد تقدم في هذه السورة بيان ذلك. واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك من يكون خادماً في تلك المجالس.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٥٤
٧٥٦
فقال :﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ﴾ وقد تقدم تفسير هذين الوصفين في سورة الواقعة والأقرب أن المراد به دوام كونهم على تلك الصورة التي لا يراد في الخدم أبلغ منها، وذلك يتضمن دوام حياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة الموافقة، قال الفراء : يقال مخلدون مسورون ويقال : مقرطون. وروى نفطويه عن ابن الأعرابي مخلدون محلون.
والصفة الثالثة : قوله تعالى :﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا﴾ وفي كيفية التشبيه وجوه أحدها : شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم عند اشتغالهم بأنواع الخدمة باللؤلؤ المنثور، ولو كان صفاً لشبهوا باللؤلؤ المنظوم، ألا ترى أنه تعالى قال :﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ﴾ فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين وثانيها : أنهم شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا انتثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء وثالثها : قال القاضي : هذا من التشبيه العجيب لأن اللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر لوقوع شعاع بعضه على البعض فيكون مخالفاً للمجتمع منه.
واعلم أنه تعالى لما ذكر تفصيل أحوال أهل الجنة، أتبعه بما يدل على أن هناك أموراً أعلى وأعظم من هذا القدر المذكور فقال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٥٦
٧٥٧
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : رأيت هل له مفعول ؟
فيه قولان : الأول : قال الفراء : المعنى وإذا رأيت ما ثم وصلح إضمار ما كما قال :﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ يريد ما بينكم، قال الزجاج : لا يجوز إضمار ما لأن ثم صلة وما موصولها، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة الثاني : أنه ليس له مفعول ظاهر ولا مقدر والغرض منه أن يشبع ويعم، كأنه قيل : وإذا وجدت الرؤية ثم، ومعناه أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم كثير وملك كبير، وثم في موضع النصب على الظرف يعني في الجنة.
المسألة الثانية : اعلم أن اللذات الدنيوية محصورة في أمور ثلاثة. قضاء الشهوة، وإمضاء / الغضب، واللذة الخيالية التي يعبر عنها بحب المال والجاه، وكل ذلك مستحقر فإن الحيوانات الخسيسة قد تشارك الإنسان في واحد منها، فالملك الكبير الذي ذكره الله ههنا لا بد وأن يكون مغايراً لتلك اللذات الحقيرة، وما هو إلا أن تصير نفسه منقشة بقدس الملكوت متحلية بجلال حضرة اللاهوت، وأما ما هو على أصول المتكلمين، فالوجه فيه أيضاً أنه الثواب والمنفعة المقرونة بالتعظيم فبين تعالى في الآيات المتقدمة تفصيل تلك المنافع وبين في هذه الآية حصول التعظيم وهو أن كل واحد منهم يكون كالملك العظيم، وأما المفسرون فمنهم من حمل هذا الملك الكبير على أن هناك منافع أزيد مما تقدم ذكره، قال ابن عباس : لا يقدر واصف يصف حسنه ولا طيبه. ويقال : إن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كمايرى أدناه، وقيل : لا زوال له وقيل : إذا أرادوا شيئاً حصل، ومنهم من حمله على التعظيم. فقال الكلبي : هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه، ولا يدخل عليه رسول رب العزة من الملائكة المقربين المطهرين إلا بعد الاستئذان.


الصفحة التالية
Icon