الأول : أن المراد هو الصلاة قالوا : لأن التقييد بالبكرة والأصيل يدل على أن المراد من قوله :﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ الصلوات. ثم قالوا : البكرة هي صلاة الصبح والأصيل صلاة الظهر والعصر ﴿وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَه ﴾ المغرب والعشاء، فتكون هذه الكلمات جامعة الصلوات الخمس وقوله :﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا﴾ المراد منه التهجد، ثم اختلفوا فيه فقال بعضهم : كان ذلك من الواجبات على الرسول عليه السلام، ثم نسخ كما ذكرنا في سورة المزمل واحتجوا عليه بأن قوله :﴿فَاسْجُدْ لَه وَسَبِّحْهُ﴾ أمر وهو للوجوب لا سيما إذا تكرر على سبيل المبالغة، وقال آخرون : بل المراد التطوع وحكمه ثابت.
القول الثاني : أن المراد من قوله :﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ إلى آخر الآية ليس هو الصلاة بل المراد التسبيح الذي هو القول والاعتقاد، والمقصود أن يكون ذاكراً لله في جميع الأوقات ليلاً ونهاراً بقلبه ولسانه، وهو المراد من قوله :﴿عَلِيمًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا﴾ (الأحزاب : ٤١).
واعلم أن في الآية لطيفة أخرى وهي أنه تعالى قال :﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلا﴾ (الإنسان : ٢٣) أي / هديناك إلى هذه الأسرار، وشرحنا صدرك بهذه الأنوار، وإذ قد فعلنا بك ذلك فكن منقاداً مطيعاً لأمرنا، وإياك وأن تكون منقاداً مطيعاً لغيرنا، ثم لما أمره بطاعته، ونهاه عن طاعة غيره قال :﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ وهذا إشارة إلى أن العقول البشرية ليس عندها إلا معرفة الأسماء والصفات، أما معرفة الحقيقة فلا، فتارة يقال له :﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ وهو إشارة إلى معرفة الأسماء، وتارة يقال له :﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ وهو إشارة إلى مقام الصفات، وأما معرفة الحقيقة المخصوصة التي هي المستلزمة لسائر اللوازم السلبية والإضافية، فلا سبيل لشيء من الممكنات والمحدثات، إلى الوصول إليها والاطلاع عليها، فسبحان من اختفى عن العقول لشدة ظهوره واحتجب عنها بكمال نوره.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٦١
واعلم أنه تعالى لما خاطب رسوله بالتعظيم والنهي والأمر عدل إلى شرح أحوال الكفار والمتمردين، فقال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٦١
٧٦٢
والمراد أن الذي حمل هؤلاء الكفار على الكفر، وترك الالتفات والإعراض عما ينفعهم في الآخرة ليس هو الشبهة حتى ينتفعوا بالدلائل المذكورة في أول هذه السورة، بل الشهوة والمحبة لهذه اللذات العاجلة والراحات الدينية، وفي الآية سؤالان :
السؤال الأول : لم قال : وراءهم ولم يقل : قدامهم ؟
الجواب : من وجوه أحدها : لما لم يلتفتوا إليه، وأعرضوا عنه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم وثانيها : المراد ويذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل فأسقط المضاف وثالثها : أن تستعمل بمعنى قدام كقوله :﴿مِّن وَرَآاـاِهِ جَهَنَّمُ﴾ (إبراهيم : ١٦) ﴿وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ﴾ (الكهف : ٧٩).
السؤال الثاني : ما السبب في وصف يوم القيامة بأنه يوم ثقيل ؟
الجواب : استعير الثقل لشدته وهوله، من الشيء الثقيل الذي يتعب حامله ونحوه ﴿ثَقُلَتْ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ (الأعراف : ١٨٧).
ثم إنه تعالى لما ذكر أن الداعي لهم إلى هذا الكفر حب العاجل، قال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٦٢
٧٦٤
والمراد أن حبهم للعاجلة يوجب عليهم طاعة الله من حيث الرغبة ومن حيث الرهبة، أما من حيث الرغبة فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة، وخلق جميع ما يمكن الانتفاع به، فإذا أحبوا اللذات العاجلة، وتلك اللذات لا تحصل / إلا عند حصول المنتفع وحصول المنتفع به، وهذان لا يحصلان إلا بتكوين الله وإيجاده، فهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله ولتكاليفه وترك التمرد والإعراض، وأما من حيث الرهبة فلأنه قدر على أن يميتهم، وعلى أن يسلب النعمة عنهم، وعلى أن يلقيهم في كل محنة وبلية، فلأجل من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم أن ينقادوا لله، وأن يتركوا هذا التمرد، وحاصل الكلام كأنه قيل لهم : هب أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة مستحسنة، إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله والإنقياد له، فلو أنكم توسلتم به إلى الكفر بالله، والإعراض عن حكمه، لكنتم قد تمردتم، وهذا ترتيب حسن في السؤال والجواب، وطريقة لطيفة : وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال أهل اللغة : الأسر الربط والتوثيق، ومنه أسر الرجل إذا وثق بالقد وفرس مأسور الخلق وفرس مأسور بالعقب، والمعنى شددنا توصيل أعضائهم بعضاً ببعض وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب.


الصفحة التالية
Icon