وقوله تعالى :﴿وَالنَّـاشِرَاتِ نَشْرًا﴾ معناه أنهم نشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض، أو نشروا الشرائع في الأرض، أو نشروا الرحمة أو العذاب، أو المراد الملائكة الذين ينشرون / الكتب يوم الحساب، وهي الكتب التي فيها أعمال بني آدم، قال تعالى :﴿وَنُخْرِجُ لَه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ كِتَـابًا يَلْقَـاـاهُ مَنشُورًا﴾ وبالجملة فقد نشروا الشيء الذي أمروا بإيصاله إلى أهل الأرض ونشره فيهم وقوله تعالى :﴿فَالْفَـارِقَـاتِ فَرْقًا﴾ معناه أنهم يفرقون بين الحق والباطل، وقوله :﴿فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا﴾ معناه أنهم يلقون الذكر إلى الأنبياء، ثم المراد من الذكر يحتمل أن يكون مطلق العلم والحكمة، كما قال :﴿يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه ﴾ (النحل : ٢) ويحتمل أن يكون المراد هو القرآن خاصة، وهو قوله :﴿الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنا بَيْنِنَا بَلْ﴾ وقوله :﴿وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى ا إِلَيْكَ الْكِتَـابُ﴾ وهذا الملقى وإن كان هو جبريل عليه السلام وحده، إلا أنه يجوز أن يسمى الواحد باسم الجماعة على سبيل التعظيم.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٦٨
واعلم أنك قد عرفت أن المقصود من القسم التنبيه على جلالة المقسم به، وشرف الملائكة وعلو رتبتهم أمر ظاهر من وجوه أحدها : شدة مواظبتهم على طاعة الله تعالى، كما قال تعالى :﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ (النحل : ٥٠) ﴿لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ﴾ (الأنبياء : ٢٧) وثانيها : أنهم أقسام : فمنهم من يرسل لإنزال الوحي على الأنبياء، ومنهم من يرسل للزوم بني آدم لكتابة أعمالهم ؛ طائفة منهم بالنهار وطائفة منهم بالليل، ومنهم من يرسل لقبض أرواح بني آدم، ومنهم من يرسل بالوحي من سماء إلى أخرى، إلى أن ينزل بذلك الوحي ملك السماء إلى الأرض/ ومنهم الملائكة الذين ينزلون كل يوم من البيت المعمور إلى الكعبة على ما روي ذلك في الإخبار، فهذا مما ينتظمه قوله :﴿وَالْمُرْسَلَـاتِ عُرْفًا﴾ ثم ما فيها من سرعة السير، وقطع المسافات الكثيرة في المدة اليسيرة، كقوله :﴿تَعْرُجُ الْمَلَـا اـاِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُه خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ ثم ما فيها من نشر أجنحتهم العظيمة عند الطيران، ونشر العلم والحكمة والنبوة والهداية والإرشاد والوحي والتنزيل، وإظهار الفرق بين الحق والباطل بسبب إنزال ذلك الوحي والتنزيل، وإلقاء الذكر في القلب واللسان بسبب ذلك الوحي، وبالجملة فالملائكة هم الوسائط بين الله تعالى، وبين عباده في الفوز بجميع السعادات العاجلة والآجلة والخيرات الجسمانية والروحانية، فلذلك أقسم الله بهم.
القول الثاني : أن المراد من هذه الكلمات الخمس بأسرها الرياح، أقسم الله برياح عذاب أرسلها عرفاً، أي متتابعة كشعر العرف، كما قال :﴿يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ﴾ (الروم : ٤٦) ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَـاحَ﴾ (الحجر : ٢٢) ثم إنها تشتد حتى تصير عواصف ورياح رحمة نشرت السحاب في الجو، كما قال :﴿وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِه ﴾ (النمل : ٦٣) وقال :﴿اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُه فِى السَّمَآءِ﴾ (الروم : ٤٨) ويجوز أيضاً أن يقال : الرياح تعين النبات والزرع والشجر على النشور والإنبات، وذلك لأنها تلقح فيبرز النبات بذلك، على ما قال تعالى :﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَـاحَ لَوَاقِحَ﴾ (الحجر : ٢٢) فبهذا الطريق تكون الرياح ناشرة للنبات وفي كون الرياح فارقة وجوه أحدها : أن الرياح تفرق بعض أجزاء السحاب عن بعض وثانيها : أن الله تعالى خرب بعض القرى بتسليط الرياح عليها، كما قال :﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ﴾ (الحاقة : ٦) وذلك سبب لظهور الفرق بين أولياء الله وأعداء الله وثالثها : أن عند حدوث الرياح المختلفة، وترتيب الآثار العجيبة عليها من تموج السحاب وتخريب الديار تصير الخلق مضطرين إلى الرجوع إلى الله والتضرع على باب رحمته، فيحصل الفرق بين المقر والمنكر والموحد والملحد، وقوله :﴿فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا﴾ معناه أن العاقل إذا شاهد هبوب الرياح التي تقلع القلاع، وتهدم الصخور والجبال، وترفع الأمواج تمسك بذكر الله والتجأ إلى إعانة الله، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر والإيمان والعبودية في القلب، ولا شك أن هذه الإضافة تكون على سبيل المجاز من حيث إن الذكر حصل عند حدوث هذه.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٦٨