السؤال الثاني : المراد من الإهلاك في قوله :﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الاوَّلِينَ﴾ هو مطلق الإماتة أو الإماتة بالعذاب ؟
فإن كان ذلك هو الأول لم يكن تخويفاً للكفار، لأن ذلك أمر حاصل للمؤمن والكافر، فلا يصلح تحذيراً للكافر، وإن كان المراد هو الثاني وهو الإماتة بالعذاب، فقوله :﴿ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ﴾ يقتضي أن يكون الله قد فعل بكفار قريش مثل ذلك، ومن المعلوم أنه لم يوجد ذلك، وأيضاً فلأنه تعالى قال :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ الجواب : لم لا يجوز أن يكون المراد منه الإماتة بالتعذيب، وقد وقع ذلك في حق قريش وهو يوم بدر ؟
سلمنا ذلك، فلم لا يجوز أن يكون المراد من الإهلاك معنى ثالثاً مغايراً للأمرين اللذين ذكروهما وهو الإماتة المستعقبة للذم واللعن ؟
فكأنه قيل : إن أولئك المتقدمين لحرصهم على الدنيا عاندوا الأنبياء وخاصموهم، ثم ماتوا فقد فاتتهم الدنيا وبقي اللعن عليهم في الدنيا والعقوبة الأخروية دائماً سرمداً/ فهكذا يكون حال هؤلاء الكفار الموجودين ومعلوم أن مثل هذا الكلام من أعظم وجوه الزجر.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٧٣
٧٧٧
اعلم أن هذا هو النوع الثالث : من تخويف الكفار ووجه التخويف فيه من وجهين : الأول : أنه تعالى ذكرهم عظيم إنعامه عليهم، وكلما كانت نعمة الله عليهم أكثر كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش، وكلما كان كذلك كان العقاب أعظم، فلهذا قال عقيب ذكر هذا الإنعام :﴿وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾. الوجه الثاني : أنه تعالى ذكرهم كونه قادراً على الابتداء، وظاهر في العقل أن القادر على الابتداء قادر على الإعادة، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة، لا جرم قال في حقهم :﴿وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ وأما التفسير فهو أن قوله :﴿أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾ أي من النطفة، كقوله :﴿أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَـاهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ وهو الرحم، لأن ما يخلق منه الولد لا بد وأن يثبت في الرحم ويتمكن بخلاف مالا يخلق منه الولد، ثم قال :﴿إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ والمراد كونه في الرحم إلى وقت الولادة، وذلك الوقت معلوم لله تعالى لا لغيره كقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ إلى قوله :﴿وَيَعْلَمُ مَا فِى الارْحَامِ ﴾، ﴿فَقَدَرْنَا﴾ قرأ نافع وعبدالله بن عامر بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف، أما التشديد فالمعنى إنا قدرنا ذلك تقديراً فنعم المقدرون له نحن، ويتأكد هذا الوجه بقوله تعالى :﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَه فَقَدَّرَه ﴾ ولأن إيقاع الخلق على هذا التقدير والتحديد نعمة من المقدر على المخلوق فحسن ذكره في موضع ذكر المنة والنعمة، ومن طعن في هذه القراءة قال : لو صحت هذه القراءة لوجب أن يقال : فقدرنا فنعم المقدرون وأجيب عنه بأن العرب قد تجمع بين اللغتين، قال تعالى :﴿فَمَهِّلِ الْكَـافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ وأما القراءة بالتخفيف ففيها وجهان : الأول : أنه من القدرة أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا وأردنا ﴿فَنِعْمَ الْقَـادِرُونَ﴾ حيث خلقناه في أحسن الصور والهيئات والثاني : أنه يقال : قدرت الشيء بالتخفيف على معنى قدرته، قال : الفراء العرب تقول : قدر عليه الموت، وقدر عليه الموت، وقدر عليه رزقه وقدر بالتخفيف والتشديد، قال تعالى :﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَه ﴾.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٧٧
٧٧٩
اعلم أن هذا هو النوع الرابع : من تخويف الكفار وذلك لأنه ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الأنفس، وفي هذه الآية ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الآفاق، ثم قال في آخر الآية :﴿وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ والسبب فيه ما قدمنا أن النعم كلما كانت أكثر كانت الجناية أقبح فكان استحقاق الذم عاجلاً والعقاب آجلاً أشد، وإنما قدم تلك الآية على هذه الآية، لأن النعم التي في الأنفس كالأصل للنعم التي في الآفاق، فإنه لولا الحياة والسمع والبصر والأعضاء السليمة لما كان الانتفاع بشيء من المخلوق ممكناً.