الأول : كيف يمكن الجمع بين قوله :﴿هَـاذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ﴾ وقوله :﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ وقوله :﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ وقوله :﴿وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ ويروى أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن هذا السؤال والجواب : عنه من وجوه أحدها : قال الحسن : فيه إضمار، والتقدير : هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة، ولا يؤذن لهم فيعتذرون، لأنه ليس لهم فيما عملوه عذر صحيح وجواب مستقيم، فإذا لم ينطقوا بحجة سليمة وكلام مستقيم فكأنهم لم ينطقوا، لأن من نطق بما لا يفيد فكأنه لم ينطق، ونظيره ما يقال لمن ذكر كلاماً غير مفيد : ما قلت شيئاً وثانيها : قال الفراء : أراد بقوله :﴿يَوْمُ لا يَنطِقُونَ﴾ تلك الساعة وذلك القدر من الوقت الذي لا ينطقون فيه، كما يقول : آتيك يوم يقدم فلان، والمعنى ساعة يقدم وليس المراد باليوم كله، لأن القدوم إنما يكون في ساعة يسيرة، ولا يمتد في كل اليوم وثالثها : أن قوله :﴿لا يَنطِقُونَ﴾ لفظ مطلق، والمطلق لا يفيد العموم لا في الأنواع ولا في الأوقات، بدليل أنك تقول : فلان لا ينطق بالشر ولكنه ينطق بالخير، وتارة تقول : فلان لا ينطق بشيء ألبتة، وهذا يدل على أن مفهوم لا ينطق قدر مشترك / بين أن لا ينطق ببعض الأشياء، وبين أن لا ينطق بكل الأشياء، وكذلك تقول : فلان لا ينطق في هذه الساعة، وتقول : فلان لا ينطق ألبتة، وهذا يدل على أن مفهوم لا ينطق مشترك بين الدائم والموقت، وإذا كان كذلك فمفهوم لا ينطق يكفي في صدقه عدم النطق ببعض الأشياء وفي بعض الأوقات، وذلك لا ينافي حصول النطق بشيء آخر في وقت آخر، فيكفي في صدق قوله :﴿لا يَنطِقُونَ﴾ أنهم لا ينطقون بعذر وعلة في وقت السؤال، وهذا الذي ذكرناه إشارة إلى صحة الجوابين الأولين بحسب النظر العقلي، فإن قيل : لو حلف لا ينطق في هذا اليوم، فنطق في جزء من أجزاء اليوم يحنث ؟
قلنا : مبني الإيمان على العرف، والذي ذكرناه بحث عن مفهوم اللفظ من حيث إنه هو ورابعها : أن هذه الآية وردت عقيب قول خزنة جهنم لهم ﴿انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلَـاثِ شُعَبٍ﴾ فينقادون ويذهبون، فكأنه قيل : إنهم كانوا يؤمرون في الدنيا بالطاعات فما كانوا يلتفتون. أما في هذه الساعة (فقد) صاروا منقادين مطيعين في مثل هذا الكليف الذي هو أشق من كل شيء، تنبيهاً على أنهم لو تركوا الخصومة في الدنيا لما احتاجوا في هذا الوقت إلى هذا الانقياد الشاق، والحاصل أن قوله :﴿هَـاذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ﴾ متقيد بهذا الوقت في هذا العمل، وتقييد المطلق بسبب مقدمة الكلام مشهور في العرف، بدليل أن المرأة إذا قالت : أخرج هذه الساعة من الدار، فقال الزوج : لو خرجت فأنت طالق، فإنه يتقيد هذا المطلق بتلك الخرجة، فكذا ههنا.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٧٨١
السؤال الثاني : قوله :﴿وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ يوهم أن لهم عذراً وقد منعوا من ذكره، وهذا لا يليق بالحكيم والجواب : أنه ليس لهم في الحقيقة عذر ولكن ربما تخيلوا خيالاً فاسداً أن لهم فيه عذراً، فهم لا يؤذن لهم في ذلك ذكر العذر الفاسد، ولعل ذلك العذر الفاسد هو أن يقول : لما كان الكل بقضائك وعلمك ومشيئتك وخلقك فلم تعذبني عليه، فإن هذا عذر فاسد إذ ليس لأحد أن يمنع المالك عن التصرف في ملكه كيف شاء وأراد، فإن قيل : أليس أنه قال :﴿رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ وقال :﴿وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِه لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا﴾ والمقصود من كل ذلك أن لا يبقى في قلبه، أن له عذراً، فهب أن عذره في موقف القيامة فاسد فلم لا يؤذن له في ذكره حتى يذكره، ثم بيبن له فساده ؟
قلنا : لما تقدم الأعذار والإنذار في الدنيا بدليل قوله :﴿فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا﴾ كان إعادتها غير مفيدة.


الصفحة التالية
Icon