وثامنها : قوله تعالى :﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ كلام أهل اللغة مضطرب في تفسير الوهاج، فمنهم من قال الوهج مجمع النور والحرارة، فبين الله تعالى أن الشمس بالغة إلى أقصى الغايات في هذين الوصفين، وهو المراد بكونها وهاجاً، وروى الكلبي عن ابن عباس أن الوهاج مبالغة في النور فقط، يقال للجوهر إذا تلألأ توهج، وهذا يدل على أن الوهاج يفيد الكمال في النور، ومنه قول الشاعر يصف النور :
نوارها متباهج يتوهج وفي كتاب الخليل : الوهج، حر النار والشمس، وهذا يقتضي أن الوهاج هو البالغ في الحر واعلم أن أي هذه الوجود إذا ثبت فالمقصود حاصل.
أما المعصرات ففيها قولان : الأول : وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس، وقول مجاهد، ومقاتل والكلبي وقتادة إنها الرياح التي تثير السحاب ودليله قوله تعالى :﴿اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ (الروم : ٤٨) فإن قيل على هذا التأويل كان ينبغي أن يقال وأنزلنا بالمعصرات، قلنا : الجواب : من وجهين الأول : أن المطر إنما ينزل من السحاب، والسحاب إنما يثيره الرياح، فصح أن يقال هذا المطر إنما حصل من تلك الرياح، كما يقال هذا من فلان، أي من جهته وبسببه الثاني : أن من ههنا بمعنى الباء والتقدير، وأنزلنا بالمعصرات أي بالرياح المثيرة للسحاب ويروى عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعكرمة أنهم قرأوا (وأنزلنا بالمعصرات) وطعن الأزهري في هذا القول، وقال الأعاصير من الرياح ليست من رياح المطر، وقد وصف الله تعالى المعصرات بالماء الشجاج وجوابه : أن الإعصار ليست من رياح المطر، فلم لا يجوز أن تكون المعصرات من رياح المطر ؟
القول الثاني : وهو الرواية الثانية عن ابن عباس واختيار أبي العالية والربيع والضحاك أنها السحاب، وذكروا في تسمية السحاب بالمعصرات وجوهاً أحدها : قال المؤرخ : المعصرات السحائب بلغة قريش وثانيها : قال المازني يجوز أن تكون المعصرات هي السحائب ذوات الأعاصير فإن السحائب إذا عصرتها الأعاصير لا بد وأن ينزل المطر منها وثالثها : أن المعصرات هي السحائب التي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر كقولك : أجز الزرع إذا حان له أن يجز، / ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض، وأما الثجاج فاعلم أن الثج شدة الانصباب يقال : مطر ثجاج ودم ثجاج أي شديد الانصباب.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٩
واعلم أن الثج قد يكون لازماً، وهو بمعنى الانصباب كما ذكرنا، وقد يكون متعدياً بمعنى الصب وفي الحديث "أفضل الحج العج والثج" أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدى، وكان ابن عباس مثجاً أي يثج الكلام ثجاً في خطبته وقد فسروا الثجاج في هذه الآية على الوجهين، وقال الكلبي ومقاتل وقتادة الثجاج ههنا المتدفق المنصب، وقال الزجاج معناه الصباب كأنه يثج نفسه أي يصب. وبالجملة فالمراد تتابع القطر حتى يكثر الماء فيعظم النفع به.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : كل شيء نبت من الأرض فإما أن لا يكون له ساق وإما أن يكون، فإن لم يكن له ساق فإما أن يكون له أكمام وهو الحب وإما أن لا يكون له أكمام وهو الحشيش وهو المراد ههنا بقوله :﴿وَنَبَاتًا﴾ وإلى هذين القسمين الإشارة بقوله تعالى :﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَـامَكُمْ ﴾ (طه : ٥٤) وأما الذي له ساق فهو الشجر فإذا اجتمع منها شيء كثير سميت جنة، فثبت بالدليل العقلي انحصار ما ينبت في الأرض في هذه الأقسام الثلاثة، وإنما قدم الله تعالى الحب لأنه هو الأصل في الغذاء، وإنما ثني بالنبات لاحتياج سائر الحيوانات إليه، وإنما أخر الجنات في الذكر لأن الحاجة إلى الفواكه ليست ضرورية.
المسألة الثانية : اختلفوا في ألفافاً، فذكر صاحب "الكشاف" أنه لا واحد له كالأوزاع والأخياف، والأوزاع الجماعات المتفرقة والأخياف الجماعات المختلطة. وكثير من اللغويين أثبتوا له واحداً، ثم اختلفوا فيه، فقال الأحفش والكسائي : واحدها لف بالكسر، وزاد الكسائي : لف بالضم، وأنكر المبرد الضم، وقال : بل واحدها لفاء. وجمعها لف، وجمع لف ألفاف، وقيل يحتمل أن يكون لفيف كشريف وأشراف نقله القفال رحمه الله، إذا عرفت هذا فنقول قوله :﴿وَجَنَّـاتٍ أَلْفَافًا﴾ أي ملتفة، والمعنى أن كل جنة فإن ما فيها من الشجر تكون مجتمعة متقاربة، ألا تراهم يقولون امرأة لفاء إذا كانت غليظة الساق مجتمعة اللحم يبلغ من تقاربه أن يتلاصق.
المسألة الثالثة : كان الكعبي من القائلين بالطبائع، فاحتج بقوله تعالى :﴿لِّنُخْرِجَ بِه حَبًّا وَنَبَاتًا﴾ وقال : إنه يدل على بطلان قول من قال إن الله تعالى لا يفعل شيئاً بواسطة شيء آخر.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٩


الصفحة التالية
Icon